تناقضات العيد في طرابلس.. و"كرنفال" شعبي حتى الفجر

جنى الدهيبي
الأحد   2023/04/16
الاحتفال في عيد الفطر من الطقوس المقدسة عند أهل المدينة (المدن)

من وسط ساحة التل ومساربها نحو الأسواق الشعبية وطرابلس القديمة، تعيش المدينة أشبه بكرنفال شعبي متنقل، يبدأ مع غروب الشمس وينتهي عند شروقها فجرًا، في ليالي العُشر الأخير من رمضان.  

في طرابلس، تبدو الاستعدادات الشعبية للعيد أجمل من يوم العيد نفسه. إنها تحضيرات تتقلب على الكثير من التناقضات الحقيقية، في واحدة من أكثر المدن التي تعبّر عن شكل الحياة واضطراباتها في لبنان ما بعد انفجار الأزمة.  

هنا، وخلافًا لأيام الظلام الكاحل، يشع النور في ليالي طرابلس القديمة، من الفوانيس والأسلاك التي تتدلى كالجسور بين المباني، كما يتلألأ برج الساعة في ساحة التل بالإضاءة، مطلًا على مجسمات رمضانية ملأت الساحة المقابلة له.  

بهجة الاكتظاظ  
ما إن نعبر ساحة النور نحو البولفار المؤدي إلى التل، حتى نجد أنفسنا عالقين وسط ازدحام مئات السيارات، في مشهد تكسر رتابته الزمامير وجولات فرق "الوداع". هذه الفرق الشعبية وغير المنظمة، تقرع الطبول وتدق الصنوج والدفوف، وينشد شبانها موشحات دينية أثناء تنقلهم بين الأبنية والمحال التجارية والمقاهي، في واحد من الطقوس التي عرفتها المدينة منذ العهد العثماني، بينما يبادلهم بعض الناس بتقديم مبالغ رمزية.  

أما العابرون بين السيارات، فتلوح من أيادي بعضهم أكياس تظهر منها ثياب وحلويات. يبدون على عجلة من أمرهم، ويلتفتون يمنة ويسرة، وكأنهم في سباق مع موعد قد يفوتهم.. تشدّ إحدى السيدات يد طفلتها، ونسمعها تقول: "عجل بالمشي بدي إلحق جبلك الفستان من السوق العريض".  

لكن الوصول إلى ذلك السوق الذي تنتشر على جنباته محال الألبسة والأحذية الشعبية، لم يكن سهلًا وسط تدافع جموع الناس وبالآلاف، ذهابًا وإيابًا. يقول أحد الغرباء عن المدينة إن المشهد يذكر بحجم تدافع الناس في شوارع القاهرة. لكنها في طرابلس تبدو تظاهرة شعبية استثنائية احتفالًا باقتراب العيد، تخترقها روائح الكعك بالجبن والسماق من العربات المتنقلة، وروائح المعمول من معامل الحلويات، وقرقعة الأكواب الزجاجية التي يدعو أصحابها العابرين لتذوق الجلاب والعرق سوس.  

وإذا كانت طرابلس تستحق لقب عاصمة المناسبات الدينية الإسلامية في لبنان، فإنها تجذب إليها في هذه الليالي السواح والزوار والغرباء من مختلف المشارب، يقصدونها بهدف الاستمتاع في هذه الأجواء، وتلبية دعوات الإفطار في بيوت أهلها ومطاعمها، وللسهر في المقاهي الشعبية كمقهى "موسى" في باب الرمل ومقهى "فهيم" و"التل العليا" في ساحة التل وغيرها.. وهي تعجز عن استيعاب الأعداد الهائلة من الناس حتى الفجر، ويتسابق عمالها تلبية لطلبات الناس للعصائر الرمضانية والشاي والقهوة والنراجيل.  

عيد "العريض"  
وما إن ندخل عتبة السوق العريض من ناحية ساحة "النجمة" المكتظة أيضًا، حتى تتفاقم مشقة العبور وسط الازدحام المضاعف ونداءات الباعة التي تتنافس على اجتذاب الناس بأكثر عروض الأسعار إغراءً. وفي هذا السوق القديم الذي يمتد بطول 175 مترًا وبعرض نحو 12 مترًا، يبدو كصالة عمرانية تراثية مكشوفة بشكل مستطيل، يمزج بين العصرين المملوكي والعثماني مع بعض ملامح الحداثة، تتفرع منه نحو 5 أزقة، يصل بنا أحدها إلى سوق الذهب وآخر إلى الجامع المنصوري الكبير.  

تقول أم هيثم لـ"المدن" إنها تقصد السوق العريض من مسكنها في باب التبانة، لشراء ما تيسر من ألبسة لأولادها. تقر هذه السيدة أنه لم يعد من شيء رخيص، وحتى طرابلس لم تعد أمًا لكل الفقراء. لكن هنا، يبقى هامش الأسعار أقل بكثير من محال شارع "عزمي" مثلًا، كما أن الباعة يستجيبون إلى المفاصلة على الأسعار، ومنح التخفيضات للناس لبيع أكبر كمية لديهم.  

على جانب آخر، يخبرنا عامل في أحد المحال لبيع الأحذية أن عددًا كبيرًا من المحال "الفخمة" كما يسميها، تشتري منهم بضائع بالجملة، من طرابلس وخارجها، وتبيعها بأضعاف أسعارها الفعلية. مثلًا، يرينا حذاء يبيعه بثمانية دولارات، ويدلنا على اسم محل آخر خارج السوق يبيعه نفسه بـ30 دولاراً. ثم يسخر: "هو عامل ديكور للمحل.. وكل شي فرنجي برنجي".  

تكافل رمضان  
ورغم الضائقة الاقتصادية التي ضاعفت آلام الفقراء في طرابلس، فإن الاحتفال في عيد الفطر من الطقوس المقدسة عند أهلها، رغم كل الضغوط الاجتماعية والنفسية التي يشعرون بها إزاء عجزهم عن تلبية كامل حاجيات العيد لهم ولأطفالهم. ومن الظواهر اللافتة، هو انتشار عدد كبير من محال الحلويات الصغيرة والجديدة في طرابلس، والتي تنامت بعد الأزمة، وهي تبيع الحلويات والمعمول بأسعار أرخص بكثير من المحال المعروفة في المدينة، وإن بجودة منخفضة، تلبية لحاجات مختلف الشرائح.  

ولعل ما يعزز قدرة الناس الشرائية في طرابلس خلال فترة رمضان والعيد، رغم الغلاء الفاحش بالأسعار، هو مستوى التكافل الاجتماعي الذي يتميز به أهلها خلال هذا الشهر وفي العيد، حيث يستفيد الناس من حلقة تدور فيها أموال الزكاة والفطرة والصدقة، كما تنشط هبات الجمعيات المحلية، وتوزع بعضها آلاف القسائم على الأسر الفقيرة لشراء الألبسة والحلويات، ناهيك عن الولائم الرمضانية التي يجتمعون حولها.  

ووسط حضور كثيف للجيش، تفاديًا لأي توتر أمني، يتحضر أهالي طرابلس بزخم وبهجة للعيد، بانتظار صباح ستفوح فيه رائحة ورق العنب من منازل كثيرة في طرابلس، قبل العودة إلى روتين أيام بائسة ومثقلة بالهموم والعوز والمعاناة.