عطلة يوم أحد بيروتي: "كلارا" والعنصرية والقهر والعتمة

نادر فوز
الأحد   2021/09/26
طلبت كلارا الدخول إلى الحمام، طلبت الإذن، هكذا قيل لها حيث تمّ استبعادها (Getty)
في يوم أحد بيروتي، العاصمة ميّتة. المطاعم خاوية. حركة الشوارع معدومة. الكورنيش البحري من دون ازدحام. الأحياء فرغت، حتى من أولاد الجيران المزعجين. دخان مناقل الشواء اختفى. حلّت مكانه دواخين موتيرات الكهرباء. سيارات الإسعاف مشت من دون زمامير ولا خطر. ميدان سبق الخيل "يصفّر" بانتظار ساعات بعد الظهر. الكهرباء انقطعت عن المدائن وأجراس الكنائس، فصمتت أيضاً. عطلة يوم أحد بيروتي هادئ. لا طنين هاتف ولا رسائل عاجلة. على الأرجح. أو هكذا خيّل لنا.

صباح كهربائي
في كهوفنا البيروتية العصرية المقطوعة عنها الكهرباء، لا قهوة صباحية، إذ لا ماكينات تعمل على الطاقة الشمسية. ولا تعمل على الطاقة البشرية الإيجابية أيضاً. لا استحمام لائق بفعل توقّف مضخّات المياه عن العمل بغياب الطاقة أيضاً، بفعل غياب "الطاقتين". لا إنترنت، لا تلفزيون، لا راديو، لا همّ. "دوش"، أو ترطيب بالماء، ندخل فنخرج صيصاناً مبلولة. نزول على السلالم، فلا أصانصور. هو صباح معتم، مقنّن. انطلاق السيارة بلا إحماء وأي عادات يومية أخرى توفيراً للبنزين.

قهوة بدارو
قهوة الصباح في بدارو. دردشة صباحية لصباحات بيوت مشابهة. عن انقطاع الكهرباء وتوقّف المصاعد. عن انقطاع الدواء وهجرة الجسم الطبي. عن بيان وزاري وُلد ولم يعمّد في البرلمان بعد. عن عاهات سياسية تحكمنا وتتحكّم بنا. عن مباراة في الدوري الإنجليزي لم يتابعها أحد بفعل التقنين الكهربائي. عن مشاريع سفر وهجرات مطلوبة. عن أسعار العيش في مدن الغرب. عن ناشط وناشطة يركبان مأساة شعب للبروز وتسلّق سلالم النجاح. مقاهي بدارو باتت كلها متشابهة. أجواء بيروت باتت كلها متشابهة. كل البلد بات يشبه نفسه، في هذا كل هذا الضغط واليأس والإحباط.

دفء جثّة
عند تقاطع مصرفين وقنصلية، في بدارو، شابة كينية مرمية في الشارع. في طقس حار تلبس معطفاً من الصوف. لونه رملي، وله زنّار وأزرار. تحته، ترتجف الشابة ليس برداً بل وجعاً. تئنّ ولا تبكي. تعيش ولا تحيا. ذلّوها، ضربوها، ورموها هنا، بلا مال ولا جواز سفر ولا طعام ولا دواء. مع شنطة صغيرة فقط، فيها ثياب شتوية وبعض الصور. ارتمت كجثة بين سيارّتين متوقفتين. حضنت نفسها في هذا الطقس الحار، وهي تلبس معطفاً أيضاً. "جثة" تبحث عن بعض الدفء. وفي هذه المدينة لا كهرباء للتدفئة. حتى شمسها مقنّنة وصباحاتها معتمة.

قصة كلارا
اسمها كلارا (اسم مستعار)، مواليد نيروبي عام 1996. عمرها 25 عاماً، وتبدو في الخمسين. تلبس معطفها الشتوي في هذا النهار الحارّ. لتخفي كدمات ولتدفء قلبها. ولأنّ حقيبتها لا تتسّع له أيضاً. نقلوها بين منزلين ومكتب خلال أربعة أشهر. لم يسدّدوا لها راتبها. قالوا لها إنه ينبغي عليها العمل لأشهر إضافية من أجل تحصيل ثمن تذكرة العودة إلى كينيا. ضربوها، نساءً ورجالاً، وربما حتى أطفالاً ومراهقين، لا نعرف، على الأرجح. جوّعوها. نزفت من أنفها، وعرضوها على طبيب لكن النزف استمرّ. فضربوها لأنها تنزف جراء مشكلة طبية تعاني منها أساساً. ضربوها لوقف النزيف، فنزفت أكثر. باختصار، استعبدوها لأشهر، ورموها هنا.  

سلّم الفئات المهمّشة
في هذه المحنة، يمرّ "أبله" يقول لنا "نيّالها". لماذا؟ لأنها ستغادر البلد وتعود إلى وطنها. والله! ولأنّ ثمة من يهتمّ بها في هذه المحنة "ونحن لا أحد ينظر إلينا". والله! بحماقة موصوفة يضع هذه الكلمات ويغادر. كلارا عاملة أجنبية، سمراء، تخضع لنظام الكفالة، معتدى عليها، مرمية في الشارع، محرومة من أوراقها الثبوتية، قنصليتها لم تسأل عنها، تنزف. تكاد تكون في أعلى سلّم الفئات المهمّشة. شابة سمراء مهاجرة. يعني أنّ كل ويلات التمييز والتحقير تلحق بها. و"نيّالها"؟

بعد تواصل مع جمعيات حقوقية، وأخرى تعنى بالعاملات الأجنبيات، تم تأمين ملجأ آمن لكلارا. حضرت سيارة وأخذتها، مع شنطتها ومعطفها، وساندويش وزجاجتي مياه وشراب قدّمهم لها أحد المتعاطفين. قبلها كانت كلارا قد طلبت الدخول إلى الحمام. تطلب إذناً، كأنها تلميذ في مدرسة أو موقوفاً في نظارة. ربما هكذا قيل لها حيث تمّ استبعادها. فتم اصطحابها إلى مقهى قريب استقبلها بترحاب.

من بين كل ما عُرض عليها، من طعام وشراب ودواء ووسائل اتصال، أصرّت  كلارا على عبوة "ديودوران" مزيل للعرق. كلارا، أنظف من كل هذا الشارع. من كل هذه المدينة. من كل هذه البلاد المظلمة التي تفوح اضطهاداً وعنصرية وتمييزاً وقهراً. غادرت كلارا المكان، وبقيت العتمة وأحاديثها.