"الدولة والدويلة".. ومعاقبة شبان شيعة انتقدوا حزب الله

لوسي بارسخيان
الجمعة   2021/09/24
ما يزعج الحزب كفيل بتحريك الدولة وأجهزتها (لوسي بارسخيان)

بدا مستفزاً صباح يوم الخميس، مشهد سبعة شبان وهم يترجلون من حافلة نقل واحدة، أقلتهم إلى قصر عدل زحلة، استجابة لطلب النيابة العامة الاستئنافية في البقاع، مثولهم أمام محققي "الشرطة القضائية". فهؤلاء هم "المشاغبون" الذين تجرأوا قبل أسابيع على التحرك احتجاجاً بوجه نائبيّ حزب الله أنور جمعة وحسين الحاج حسن، في بلدة علي النهري. فتظاهروا أمام منزل الأول ببلدتهم، وطردوا النائب حسين الحاج حسن من حسينيتها، لدى مشاركته خطيباً في مجلس عاشورائي، تعبيراً عن استيائهم من سلطة سياسية أمعنت في إفقارهم وسلبهم حق العيش بكرامة. هم شبان في مقتبل العمر، ما إن أنهوا سنوات دراستهم الجامعية، حتى وضعوا بمواجهة ظروف انسداد فرص العيش الكريم بوجههم. ولما رفعوا الصوت (وليس السلاح، لا سمح الله)، وجدوا أنفسهم يتنقلون من تحقيق إلى آخر، لا لتهمة منصوص عنها في القانون، إنما فقط كونهم تجرأوا على رفع صوتهم بوجه حزب الله ونوابه.

لأنهم صرخوا جوعهم ووجعهم
لا يعتقد البعض أن القضاء والأجهزة الأمنية تحركت (لا سمح الله) بناء لشكوى مقدمة من النائبين اللذين ذكر أن زوجة أحدهما "ذُعرت" من صراخ الشبان الموجوعين، وتأذّت مشاعر مناصري الآخر من "خدش قامته". فرفع مثل هذه الدعاوى ليس من شيم الحزب ونوابه بحق أبنائهم "المعذورين". أقله هذا ما أكدته لذويهم مصادر حزب الله والنائب أنور جمعة. إنما أجهزة الدولة، "الحاضرة بسلطة القانون بالتساوي على كل الأراضي اللبنانية"، فعلت ذلك من تلقاء ذاتها. عقدت العزم، وقررت أن تثبت فجأة حضورها في البيئة الشيعية. تماماً مثلما هي حاضرة لتعقب كل المخالفات على الأراضي اللبنانية.

فهؤلاء المشاغبون فعلوا أمراً خطيراً جداً. صرخوا جوعهم، ووجعهم من البنزين والمازوت وتقنين الكهرباء. وبوجه من؟ إثنين من نواب بيئتهم. بالتالي، فإن جريمتهم لا تغتفر. فوقع انتقاداتهم لنائبي حزب الله يتخطى بأشواط ذلك المشهد المخزي لعشرات القذائف الصاروخية التي تطايرت فوق رؤوس الناس والقوى العسكرية ومواكب صهاريج المازوت، التي خرقت السيادة اللبنانية قبل أيام، لتستقر في حضن البعلبكيين.

صحيح أن الرصاص تسبب بأضرار لمواطنين آمنين بمنازلهم في بعلبك، ولكن لا بأس، فهناك لم يجرؤ أحد أقله على انتقاد حزب الله أو نوابه، بما يستدعي تحرك الأجهزة الأمنية. بالأساس لم يعترف أحد بهذا الخرق.

لو علموا بالمازوت
500 ألف ليرة دفعها الشبان الثلاثة لسائق الحافلة حتى ينقلهم بضعة كيلومترات من علي النهري إلى زحلة. لا بأس، فهذا أقل عقاب يمكن أن ينالوه، إلى جانب احتجاز حريتهم لخمس ساعات استغرقها التحقيق معهم، حتى يتعلموا الدرس ويكونوا عبرة لسواهم.

على العموم تبقى كلفة الحافلة التي تقاسموها أقل كلفة بالنسبة لهم من سعر صفيحة البنزين التي عبّروا أمام النائبين عن صرختهم من نارها. وإذا كان موظفو "العدلية" كما سائر الدوائر الرسمية غير مستعدين لهدر رواتبهم التي يتقاضونها حتى يحضروا إلى وظائفهم، لا بأس إن أهدروا هم مداخيلهم الشحيحة، للانتقال إلى العدلية استجابة لاستدعاء جهاز في دولة قررت أن تثبت حضورها فجأة، وتهز عصاها في البيئة الشيعية.

ربما لو لم يتجرأ هؤلاء الشبان على رفع صوتهم بوجه نائبي حزب الله، كانوا وفروا على ذواتهم تلك المشقة أيضاً. لا بل انضموا إلى المحظيين من أبناء بيئتهم، ممن لحقت بهم خيرات ذلك المازوت، أو أقله الوعد بالحصول عليه لتدفئة منازلهم في فصل الشتاء أو تشغيل مولدات الكهرباء. تلك الكميات التي أغدق الحزب بها على مولدات الكهرباء البديلة عن خدمة الدولة، وحدد تعرفتها أيضا بـ400 ألف ليرة لكل خمسة أمبير، بما يتفاوت مع أي تسعيرة رسمية قد تصدر لاحقاً عن وزارة الاقتصاد وفقاً لسعر صفيحة المازوت الذي تحرر مؤخراً. فالحزب هنا هو صاحب المازوت وهو الذي يقرر التسعيرة، وعلى الناس كما أصحاب المولدات قبولها والتقيد بها، حتى لو لم يتقيدوا سابقاً بتسعيرات وزارة الاقتصاد. والحزب أكثر صدقاً من الدولة، وتهديده بمعاقبة كل مخالف لتسعيرته قابل للتنفيذ. أما الدولة وأجهزتها الأمنية، فليقوموا بواجبهم في ملاحقة من يجرؤ على انتقاد مثل هذه الإجراءات التي تثبت هيمنة الدويلة على الدولة.

الالتحاق بالقطيع
لا شك أن الشباب "أخطأوا" عندما رفعوا الصوت بوجه نائبي حزب الله! لو كانوا يعرفون بوصول "المازوت الإيراني" لما استعجلوا وكشفوا عن حركة صهاريج المازوت المستورد مدعوماً بأموال اللبنانيين، والتي كانوا يشاهدونها بأم العين وهي تتحرك بالاتجاه المعاكس نحو سوريا مجتازة الطرقات الجردية الوعرة في بلدتهم. فما الضرر في ذلك، طالما أن صهاريج النفط الإيراني سلكت أيضاً طرقات التهريب، والدولة "لا من شاف ولا من دري".

لم يلمح هؤلاء الشبان دورية واحدة في بلدتهم وهم يشاهدون تلك الصهاريج تعبر طرقات التهريب "على عينك يا تاجر". ولا اتهاماتهم، التي كانت تصلح لأن تكون إخباراً، استفزت محققيها للتأكد من هذه الخروقات. فالأجهزة منشغلة بما هو أخطر من ذلك. وما ارتكبه هؤلاء الشبان أخطر من كل ما ذكر. فالصوت المعارض في البيئة الشيعية مزعج جداً. وما يزعج الحزب كفيل بتحريك الدولة وأجهزتها.

لا تهمة فعلية إذاً لهؤلاء الشبان. ووفقاً لبيان صادر عن الشبان المستدعين "كل ما تريده أحزاب الأمر الواقع، كمّ الأفواه والالتحاق بالقطيع العددي الذي يتناسب مع مصالحهم الضيقة والمدمرة للبلاد".

وعليه، لم يكن متوقعاً أن ينتهي الاستدعاء بتوقيف. إنما الرسالة عممت على البيئة الشيعية، "اكتفوا بالفتات التي توفره لكم الدويلة واصمدوا" (أو واصمتوا).

الإفراج عن الشبان بدا حتمياً إذاً، ولكن هل هذه هي الحرية التي أرادوها. ليس تماماً. فهم قد عبّروا عن توقهم لـ"وطن آخر يصون كرامتهم، ولا تكون فيه أي هوية حزبية متفوقة على الهوية الوطنية".