مرضى سرطان يحاولون الانتحار.. مآسي فقدان الأدوية وغياب العلاج

فرح منصور
الأحد   2021/09/19
تحاول جمعيات تأمين الأدوية من الخارج لكن أسعارها المرتفعة تحول دون ذلك (مصطفى جمال الدين)
حين انتصر جوزيف على سرطان الأمعاء، شعر بفرح غير مكتمل، بما أن المعركة تركت ندوباً في جسده: كيس يحمله حيثما ذهب. فهو خسر بعضاً من أمعائه وقدرته على التبول، وبات يحتاج إلى كيس "كولوستومي" يومياً. وحال وضعه الصّحيّ دون حصوله على عمل.

ألتيكو للتوفير
ومنذ بدء الأزمة اللبنانية يعتمد جوزيف على راتب زوجته العاملة في محل ألبسة في بيروت (مليون ومئتا ألف ليرة)، بالكاد تكفي مصاريفهما. ولم يعد جوزيف يستطيع تأمين كلفة أكياس "الكولوستومي". فراتب زوجته "رمزي" لا يكفي حتّى لسداد إيجار المنزل. لذا طلب العون من أقاربه الذين قلّما يستجيبون فيؤمنون له مبالغ شحيحة (20-30$) على فترات متباعدة، إضافة إلى فاعلي الخير الذين يؤمّنون له إمّا الأكياس أو بعض متطلّباته المنزليّة. وهو بحاجة إلى أكثر من مليون ونصف المليون ليرة كلفة دواء ولوازم طبيّة شهريًّا.

واتخذت حياة جوزيف منعطفاً خطيراً مع ارتفاع أسعار الدواء والمستلزمات الطبية الضرورية. فسعر الكيس الواحد وصل إلى 35 ألف ليرة. في الحالات الطّبيعيّة، يحتاج المريض إلى 30 كيسًا كحدّ أدنى، ناهيك عن المُستلزمات الأُخرى كالقطن واللّاصقات الطّبيّة والمطهّر. ومع ارتفاع الأسعار، قرر جوزيف استعمال الكيس مرّات عدة، رغم أنه يستعمل لمرة واحدة. واستعمل "ألتيكو" للصق الكيس للتوفير، ما أدّى إلى التهاب حاد في جلده. وبات يحتاج إلى عمليّة جراحيّة تُعيد مخرجه إلى وضعه الطّبيعيّ، لكن كلفة العملية 14 ألف دولار أميركي.

لبنان والسرطان
نسبة الإصابة بالسّرطان عالية في لبنان. فأزماته المتتابعة، اقتصاديّاً وبيئيّاً، فتكت بصحّة مواطنيه، فباتت حياة مرضى السّرطان مُهدّدة لعدم القدرة على تأمين دوائهم وسبل علاجهم.

واحتلّ لبنان عام 2018 المرتبة الأولى في دول غرب آسيا في عدد المصابين بالسّرطان. ولفت تقرير إلى هناك 242 مصاباً بالسرطان بين كل 100 ألف لبناني. وسجّل عام 2018 نحو 18 ألف حالة سرطان ونحو 9 آلاف وفاة بالمرض، وفق منظمة الصحّة العالميّة. وتوقّعت المنظمّة أن يرتفع عدد المصابين بالسّرطان في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ولبنان واحد منها. وهذا يضع مصابي السّرطان في لبنان في خانة الاستهداف، لأنهم فريسة سهلة لهذا المرض.

تقصير رسمي
ولم تجد احتجاجات المرضى نفعًا. ففي الشهر الماضي تظاهروا لتأمين الدواء. ويروي أحد المرضى معاناته مع الجهات الرّسميّة: "عم نضل نتّصل ع أرقام وزارة الصّحة وما حدا بيرد". وهذا ما يجبر مرضى السرطان، رغم أزمة المحروقات الرّاهنة، على المجيء من المناطق اللّبنانيّة البعيدة إلى مبنى الوزارة في بيروت، الّتي تنفي وجود الدّواء لديها.

واستدعى هذا الوضع تأسيس جمعيّاتٍ تُعنى بمساعدة الحالات الأكثر حاجةً. ويُشير هاني نصّار رئيس جمعيّة بربارة نصّار المعنيّة بتأمين الدّواء لمرضى السّرطان، إلى أنّ معاناة المرضى لم تقتصر على الجانب الجسديّ، بل كانت لها آثارها النّفسيّة بسبب عدم توفّر الدّواء. فالمسألة تتخطّى كونها مسألة حياة أو موت، إنّما هي مسألة كرامة. فحقّ أيّ مريض تأمين الدواء بلا استجداء أحد.

وبعدما كانت حالات كثيرة قد شارفت على التّعافي، وفقاً لنصار، سُدّ الطّريق أمامها بسبب انقطاع الدّواء واحتكاره. وعاد كثيرون إلى مراحل متقدّمة من انتشار المرض. ويعيد نصّار أسباب الأزمة إلى ظاهرة تهريب الدّواء عبر الحدود وبيعه بأضعاف أسعاره المحلية. إضافةً إلى أنّ مصرف لبنان توقّف عن تمويل استيراد هذه الأدوية.

وحاولتْ الجمعيّة تأمين ما يلزم من دواء من خارج لبنان، لكن  أسعارها المرتفعة حالت دون ذلك. فكانت الهند الخيار الأنسب نظرًا لانخفاض سعر الدّواء فيها مقارنةً بدول أُخرى يتراوح سعره فيها بين ألف و3 آلاف دولار ويشعر المريض اليوم أنّه في سباق مع الوقت. وقد يلجأ كثر إلى تعاطي المهدّئات أو الأدوية المضادة للاكتئاب منتظرين الدواء.

محاولات انتحار
ويزداد المشهد سوءاً. فسامي الرّجل السّبعينيّ حاول إنهاء ألمه بإنهاء حياته. فإصابته باللّوكيميا (سرطان الدّم) عام 2019، صدمته. فهو رياضيّ يتّبع حمية غذائيّة. وواظب على تناول دواء vidaza لمدّة 6 أشهر. وبعد مراقبة الأطبّاء حالته وتوصّلهم إلى أنّ جسمه لم يتجاوب مع الدّواء، استبدله بدواء jakavi  الّذي بات غير مُتوفّر، ما اضطرّه إلى البحث عنه خارج لبنان حيث وصل سعره إلى 1500 دولار.

ويقول سامي إنّ الحياة لم تعد تستحقّ هذا العناء. وهو يفكّر بأن يرمي نفسه من الطّابق 11 حيث منزله في الأشرفيّة. هذه حال كثيرين من المرضى، لا سيّما مرضى السّرطان، بعدما أصبح توفّر دوائهم حلماً مستحيلاً.

ويعبّر سامي عن خيبته في بلده. فبعد غربةٍ فاقت 20 عامًّا في السّعوديّة قضاها يعمل في المطابع، وجمع فيها مبلغًا ظنّ أنّه يوفّر له رخاءً في تقاعده، حُجزت أمواله في أحد المصارف، فأصبح ينتظر مساعدةً ما من هنا، وعطفًا من هناك. وهو لا يريد أن يكون عبئاً على أولاده المغتربين الّذين يقول إنّ "ما فيهم يكفيهم"، ويصّعب عليهم تأمين كلفة دوائه الدائم وسعره خارج لبنان يصل إلى 3 آلاف دولار. وينهي حديثه قائلاً: " يا ريت متت برا وما حدا يعرف عني شي وما جيت على لبنان".

نافذة أمل
ووسط هذا الألم هناك حالات مُلهمة، تتجلّى فيها إرادة الحياة. ففوزيّة فيّاض 24 عامًا لا تقلّ قصّتها ألمًا عن سابقاتها، لكنّها اختارت التّحدّي والمواجهة.

فإصابتها لم تكن عائقًا أمام تحقيق إنجازاتها الدّراسيّة، فقد حازت أثناء تلقّيها جلسات علاجها الكيميائيّ، درجة الماجستير في اختصاص إدارة الأعمال من الجامعة اللّبنانيّة، لتكمل اختصاص المسرح في الجامعة نفسِها، متستفيدة من الضّمان الصّحّي الّذي توفّره الجامعة، إذ لا جهة ضامنة لها سواها.

وتُشير فوزيّة إلى أنّها ما زالت قادرة على تسديد كلفة علاجها ودوائها. فهي من أسرة مترابطة تعتمد بشكل أساسيّ على والدها وأخوتها. فوالدها يعمل ليلَ نهار في مقهاه المتواضع في الجنوب، وقد لا يقدر على إكمال واجبه تجاهها إذا ما رُفع الدّعم كليَّا عن الدّواء.

وتبرّعت فوزية بجزء من شعرها لزملائها في مركز السّرطان، ليتبيّن في ما بعد أنّها فقدته كلّه مثلهم. وهي تشارك مراحل علاجها عبر صفحتها على وسائل التّواصل. ولاقت قصّتها رواجًا كبيرًاً اعتبره كثر من المرضى دعماً نفسيّاً. فهي توثّق لحظات استمتاعها بالحياة ولحظات وجعها.

ورغم قدرتها على تلقّي العلاج، لا تستطيع فوزية تأمين الدّواء المضاد للغثيان بعد كلّ جلسة، وكذلك أبر المناعة neutromax و zoladex. . وفقدان هذه الأبر يسسب لها حالة من الرّعب. والجانب النّفسي أثره بالغ على العلاج وتقوية جهاز المريض المناعي.

لكن حين ينشغل المريض بالتّفكير في تأمين الدّواء يدخل دوّامة من التّخبّط النفسي. وهذا يصيبه بالعجز. ليس المريض وحده من يحتمل هذا العبء. ففكرة خسارة عزيزٍ من العائلة، تخفض من قدرتها على إظهار الدّعم المعنوي له، لا سيّما أنّ العائلة تُعتبر الدّاعم الأوّل نفسيّا ومادّيّا للمريض.