دخلت مواكب صهاريج إيران.. فاختفت دولة لبنان

لوسي بارسخيان
الخميس   2021/09/16
نقطة استقبال صهاريج المازوت، إلى ساحة للمعركة، أطلقت خلالها القذائف والصواريخ (مصطفى جمال الدين)

لدى الانتقال صباح اليوم الخميس إلى بعلبك، بمهمة تغطية صحافية لوصول صهاريج المازوت الإيراني إلى أراضيها، لم يكن هناك أدنى شك بحجم الفرح الذي لا بد أنه يحيط أبناء المحافظة. فهم أيضاً عانوا ما عاناه جميع اللبنانيين من نقص حاد بمادة المازوت، انعكست على كافة قطاعاتها الاقتصادية، إلى جانب مفاقمتها أزمة انقطاع التيار الكهربائي عن المنازل والمؤسسات. هذا إضافة إلى الطمأنينة التي يمكن أن تبعثها كميات المازوت هذه، لدى أهالي الريف، الذين يتكبدون سنوياً نفقات التدفئة الإضافية، وهي لا بد أنها ستأتي حارقة للجيوب في هذا الموسم، وخصوصاً مع تحكم السوق السوداء وتجارها برقاب الناس، منذ شهر حزيران الماضي وحتى اليوم.

رسائل "البيئة"
إلا أن هذه الأفكار "الساذجة" المحملة بالنوايا الحسنة تجاه عملية "كسر الحصار" التي سوق لها حزب الله بين جمهوره، سرعان ما تبددت أمام حقيقة الرسائل "الداخلية والخارجية" التي أرادت بيئة حزب الله أن تبعثها من خلال عرض القوة الذي قدم في منطقة بعلبك، بالتزامن مع وصول طلائع الصهاريج، التي تتالت في أربع مواكب إلى الأراضي اللبنانية.

فموكب "صهاريج إيران" سلك معبر "حوش السيد علي" غير الشرعي، بما يمثله هذا المعبر من عنوان لمأساة اللبنانيين الذين سمعوا تكراراً بإسمه، في الحديث عن كميات المحروقات والمواد الغذائية المهربة من أمامهم لمصلحة حلفاء الحزب في سوريا. علماً أن المعبر الذي يجتاز فاصل ساقية للمياه تحدد الحدود بين لبنان وسوريا، بدا معبّداً بشكل جيد، لاستيعاب حمولة الصهاريج التي قدر كل منها بـ50 ألف برميل.

إذا من أول دخول الصهاريج، اختفت الدولة ومعالمها في هذا اليوم. وبعد أن اجتازت الصهاريج من معبر حوش السيد علي، لا انتشار للجيش اللبناني، فقط المواكبة المسلحة هي لعناصر حزب الله، التي استعانت بفوج الدفاع المدني التابع للهيئة الإسلامية.

وصايا السيد
أطلت صهاريج المازوت في حبل طويل، على طول "الأوتوستراد" الذي يربط منطقة الهرمل ورأس بعلبك بمدينة بعلبك. وهو للمناسبة "أوتوستراد" مؤهل على نفقة "الشعب الإيراني" كما تكشف لافتات الشكر التي يحملها.

في المقابل بدت كلمة "السيد" لوهلة غير مستجابة في معظم القرى التي تقع على هذا الأوتوستراد. فتجمهر أهاليها في أكثر من ملقى "لوديعة كسر الحصار"، بدءاً من منطقة الهرمل إلى العين واللبوة حتى دورس، حيث النقطة الأخيرة التي سيسمح فيها بمشاهدة الصهاريج المتجهة إلى مخازنها لدى محطات "الأمانة"، التي ستتولى توزيعها وفقا لـ"برنامج خاص" وربما أيضاً "أهداف خاصة". مع أن "السيد" تحديداً أوصى البعلبكيين بعدم التجمهر في رسالة وجهت إليهم عبر وسائل الإعلام التابعة للحزب "حرصاً على سلامة الناس"، كما جاء في التوصية. فهل جاءت هذه التجمعات عفوية فعلاً، وتعكس حماسة الناس للمحروقات؟ ربما كان هذا الادعاء سيصدق، لو لم ينضم إلى هؤلاء حاملو الأسلحة على مختلف أحجامها ونوعيتها. وهؤلاء أقله يفترض أن يظهروا أكثر انضباطاً في تطبيق تعليمات الحزب إذا وجدت...

فالمشهد لم يطوَ فعلياً عند مفرق دورس، حيث تجمهرت أيضاً مجموعة من الناس تحت لافتة كبيرة كتبت عليها عبارة "خوش أميديد" مع صورة ضخمة لحسن نصرالله كتب عليها "أنت الوعد"، وإنما قبل الوصول إليه ببضعة كيلومترات فقط، حوّل مجموعة شبان، بعضهم ملثمين وبعضهم مكشوفي الوجه، نقطة استقبال صهاريج المازوت، إلى ساحة للمعركة، أطلقت خلالها القذائف والصواريخ، من مختلف عيارات الأسلحة. وتحت وابل هذه النيران، صودف مرور سيارات عسكرية، لم يأت عناصرها بأي حركة، واكتفوا بحماية رؤوسهم من القذائف التي قد تتساقط عليها. وكل ذلك في مشهد سريالي جمع "النار مع المازوت" عاكساً الروحية "الميليشياوية" بعرض القوة الذي، الذي أتى ليختزل كل الكلام الذي سمع من قبل المتجمهرين طيلة النهار.

الانتصار أولاً
نحو ثلاث ساعات استغرقها وصول الصهاريج من بلدة العين إلى بعلبك. غابت خلالها الحركة من أمام محطات البنزين، التي رفعت خراطيم معظمها في هذا اليوم، ليتجمهر الناس في عدة نقاط. فبدا الاستماع إلى بعضهم وكأنه انتقال بـ"الخلفيات الاجتماعية" وأحياناً "الوطنية" من بلد إلى آخر. نادراً ما يعبر الناس هنا عن فرحتهم بالمازوت الذي سيسد الحاجات اليومية للمواطنين، وإنما كل همهم "الانتصار" الذي برأيهم "هزّ الدني" مجدداً بكسره الحصار على سوريا وعلى إيران، وبالتالي "نشوتهم" به تشبه ذلك الفرح الذي رافق معركتي تحرير الجنوب من إسرائيل والجرود من الإرهابيين.

وعليه لا فرق لديهم ما إذا كانت كميات المازوت قليلة، أو أنها ستسد جزءاً من الحاجة المستفحلة للبنانيين. وإن رأى فيها البعض رسالة إلى الدولة اللبنانية (وإلى اللبنانيين الآخرين)، بأنه عند "التخلي" عن مسؤولياتها، لا بد أن يأتي من يسد هذا الفراغ، وبالتالي فالملام هنا الدولة وليس من سد الفراغ برأيهم.

الفرقة.. والإذعان
هذا الكلام يبدو منطقياً، لو لم يكن من أدلوا به، هم ممن يظهرون ولاء لإيران وسوريا يفوق ولائهم لدولتهم. وبعضهم ممن سقط من بين يديه "سهواً ربما" العلم اللبناني، ليرفرف "علم إيران وسوريا" إلى جانب راية الحزب..

وبعد كل هذا ثمة من يريد أن يقنع الشعب اللبناني بأن هذا المازوت، وربما البنزين لاحقاً، هو لكل الشعب اللبناني من دون تفرقة بينهم. فيما الفرقة وقعت فعلاً منذ لحظة استقبال هذه المحروقات، حيث غابت الروحية المؤسساتية حتى في التعامل معها كسلعة خاضعة للعرض والطلب، وبدا الاحتكام إليها تسليماً بسلطة دويلة غلبت فعليا الدولة، ولم يعد ينقصها سوى الاعتراف بهذا الواقع والإذعان له.