ميثاق الخراب اللبناني: صخرة في الرأس أفعى في الظلام

محمد أبي سمرا
الأربعاء   2021/09/01
ماذا يمكن أن يهوّم في الرأس سوى أشباح قنوط ويأس (Getty)
منذ يومين تهوّم في رأسي أشباح أفكار لا أهتدي إلى شكل للعبارة عنها في قول واضح أو متماسك.

وفي هذه الأيام اللبنانية السوداء، ماذا يمكن أن يهوّم في الرأس سوى أشباح قنوط ويأس، لا سبيل بعدُ إلى العبارة عنها بكلماتٍ تشبه هذا الخراب الصامت في زحفه على حياتنا؟
****

أذكر أنني أصبتُ بمثل هذا العارض من اليأس والقنوط مراتٍ ثلاث: في خضم حرب السنتين (1975–1976)، وفي حرب صيف 1982، وفي حرب تموز-آب 2006.

في المرة الأولى، مكثتُ شهورًا في أحياء الشياح، وحيدًا مستوحشًا أتنقل بين مقار منظمات عسكرية شبابية فوضوية، انتشرت كالفطر خلف خط تماس حربي في بيروت وضاحيتها الجنوبية. وكنتُ في تنقلي ذاك أبحث عبثًا عن علاج لقلقي ووحدتي وضياعي، فأصبتُ أخيرًا بخمولٍ حجري ألحقني بأهلي الهاربين من الحرب في الشياح إلى قريتهم الحدودية الجنوبية. وهناك داويت خمولي باعتزالي شتاءً كاملًا في غرفةٍ، رحتُ بضمير معذّب ووعيّ شقيّ، أراسل منها أشباح الحرب في أخبار الصحف والإذاعات، وفي كلمات بعض الكتب. وأراسل أيضًا أشباح أصدقاء انقطعت عنهم، وبعضهم قُتِلَ "مناضلًا"، فترك تحت لساني في تلك العزلة طعم خيانةٍ بائسة، ورطتني في حرب أهلية قروية شبه فولكلورية تافهة، هربتُ منها أخيرًا، ومزّقت بطاقة انتسابي إليها في كافتيريا الجامعة.

وفي حرب صيف 1982، كنت في بيروت المحاصرة بجيش من أعتى جيوش الشرق الأوسط قوة وتنظيمًا ومقدرة على الحرب. وكنت قد كرهت أشكال الحرب كلها كراهية لا هوادة فيها. وفي مساءِ قصف بري وجوي وبحري عاصف على بيروت، أصبت بهستيريا هذيانية قذفتُ فيها المتحاربين جميعًا، مُحَاصَرين ومُحَاصِرين، بأقذع الشتائم. وبعد أيام، في غروب نهار، أنزلني من سيارة حاجزُ مسلحين مسعورين من القوات اللبنانية في بلدة القماطية، فأوقفوني وجهي إلى حائط بستان، رافعًا يدّي إلى أعلى، ولقَّم أحدهم بندقيته الرشاشة خلفي، ثم شتموني وأطلقوا سراحي. وأمضيتُ تلك الليلة جالسًا في صمت حجري على كرسي على شرفةٍ، أتفرج على شهب نيران تندلع خاطفة وتنير للحظات هياكل بنايات في بيروت. وفي فجر النهار التالي، أبصرت في الطريق إلى مطار دمشق رجالًا بأكفان بيضاء يتدلون من أعواد مشانق في ضباب ذاك الفجر في ساحة المرجة. وفي باريس أمضيت أيامًا في ذهول شبح خرج من مقبرة.

في حرب تموز-آب 2006، عشت أيام "الوعد الصادق" و"النصر الإلهي" مسمرًا على شرفةٍ، أحدق طوال نهارات في جدار مدرسة من القرن التاسع عشر. مدرسة مهجورة في حي شيّدت فيه أقدم مدارس بيروت العثمانية، وكتب فادي الطفيلي قصص خرابه، كأنه كان يكتب الكلمات بمطرقة تنهال ضرباتها بصمت على عظام بشرية. وفي الليل أبصرت مناماتٍ متكررة: حياة كصخرة في الرأس، كأفعى في الظلام.
****

لماذا أستعيد اليوم في هوة الكآبة اللبنانية الزاحفة اليوم، تلك الأوقات الماضية؟

أظنُ أن لا مرجع ولا مثال لما نحن فيه اليوم سوى في يوميات ما عشناه في ذاك الماضي المديد، الذي عبّدنا فيه الطريق إلى هذه الهوة.

فالجماعات المتساكنة في لبنان لا تتفق على شيء اتفاقها على التبرؤ العنيد من ذاك الماضي المديد، معتبرةً أنها أنصع بياضًا من ثلج صنين في براءتها منه، فيما هي تؤكد حقها المقدس في الشِّقاق والتناحر في ما بينها على أي شيء، وتسمي ذاك الحق دائمًا وأبدًا عملًا وطنيًا بطوليًا باهرًا، وسعيًا خالصًا في إحقاق الحق والحقيقة. والعمل والسعي هذان تتساوى فيهما الجماعات كلها، حسب موازينها ومعاييرها، في أزمنة مختلفة ومتعاقبة. وربما يتساوى فيهما أيضًا الأفراد، فردًا فردًا، صاغرين مرغمين، أو عن سابق تصور وتصميم، أكانوا من موالي الجماعات وفي صلبها، أم على هوامشها أو خارجين عليها.

وفي هذه الملاحم من السعي البطولي المقدس (كما على محطة للمحروقات اليوم)، تُرتكبُ أشنع الفظاعات التي تُسمى تسميات مشرِّفة: النضال، التحرير والتحرر، العدالة، رفع المظالم والاستئثار، الوحدة الوطنية، السلم الأهلي، مكافحة الفساد، بناء دولة القانون والمؤسسات.. والجهاد في سبيل الله والوطن والأمة.

وما أن تستفيق هذه الجماعات من نشواتها المتكررة على خراب عميم وتحلّل في بلادها، حتى تبادر كلها على الاتفاق مجددًا على تبرؤها من الخراب والتحلل، لتلقي المسؤولية عنه على سواها.

وها نحن نجدّد اليوم ميثاق اتفاقنا المزمن على البراءة من الخراب الزاحف على حياتنا، جماعاتٍ تتحلّل، وأفرادًا هائمين في ضياع هذياني: صخرةٌ في الرأس، أفعى في الظلام.