صدمة العلمانية و"مجتمع الميم".. وانهيار الأحزاب بالجامعة الأميركية

محمد أبي سمرا
الجمعة   2021/07/23
وكان خريف 2019.. (عباس سلمان)
روى هذه الشهادة - السيرة شاب من مدينة صور، وولد فيها سنة 1999، ونشأ وعاش فتوته وشبابه الأول وعرف مجتمعها المحلي وخبره. وهي حلقة ثالثة سبقتها اثنتان نشرتهما "المدن" تباعًا: 11 و 18 تموز الجاري.

"أمل" و"حزب الله"
التحقتُ بالجامعة الأميركية في بيروت، طالب هندسة مدنية، في مطلع العام الدراسي 2018 – 2019. ومع طالب في الجامعة إياها، من صور مثلي، وصديق لي، وينتتمي إلى "حركة أمل"، تقاسمتُ مسكنًا طلابيًا في رأس بيروت. وكنت للمرة الأولى أقيم وحدي أو منفردًا، منفصلًا أو مستقلًا عن أهلي وبيتنا العائلي وبيئتي في صور. فساورني شيء من خوف في البيئة الجامعية البيروتية، الجديدة عليّ في البداية. وأنا من كنتُ اختبرت بيئتي الصورية، ألفتها وعرفت أحزابها معرفةً وافية، وصادقت كثرة من المنتمين إلى "حركة أمل" فيها –أخالفهم الرأي أناقشهم في سياساتها كلها، وأنفر من محازبي "حزب الله" ومناصريه ولا أخالطهم، وهم أصلًا منكفئون ومنعزلون ولا يخالطون سوى أمثالهم من المحازبين والمناصرين– ساورني شيء من حيرة وقلق في سلوكي وتصرفاتي حيال الأحزاب والمجموعات الطلابية الناشطة في بيئة الجامعة الأميركية.

ولأن صديقي ومساكني الصوري وزميلي في الجامعة ينتمي إلى "حركة أمل"، استطاع أن ينال من إدارة الجامعة مساعدة اجتماعية حسمت من قسطه الجامعي السنوي أكثر من نصفه.  فيما أنا العاري من أي انتماء حزبي ولا أوالي أحدًا يدعمني أو لا ظهير لي، فلم أنل سوى مساعدة شديدة الضآلة. وسرعان ما لاحظتُ أن محازبي "حزب الله" في الجامعة، كحالهم في صور، منغلقون وينتحون مكانًا محددًا لهم وحدهم في الحرم الجامعي، فلا يخالطون سواهم، وحتى أسماؤهم تظل مجهولة في الأوساط الطلابية الجامعية.

العلمانية عقيدةً نابذةً
ولما حاولت التقرّب من ناشطي النادي العلماني في الجامعة، سرعان ما لمستُ أنني غريبٌ بينهم وعنهم، وصدتني راديكالية مبادئهم العلمانية في مسائل التحرر الاجتماعي والجنسي، وكذلك أحاديثهم عن المثلية و"مجتمع الميم". وعلمتُ أنهم كانوا سباقين في ذلك منذ سنوات ثمانية سبقت وصولي إلى الجامعة. وأنا بدوري لم أستسغ هذه الطروحات التي لا عهد لي بها ولم تخطر في بالي قط. وحيرني تركيزهم على هذه المسائل في بلدٍ مأزوم ويعيش مشكلات ومعضلات عامة كبرى، أين منها تلك المشكلات الجزئية أو الفئوية والهامشية. ثم إنهم لم يكونوا ليّنين أو متسامحين معي عندما كنتُ أناقشهم، واعتبروني تقليديًا محافظًا ولم يتقبلوني في بدايات احتكاكي بهم، من دون أن أكون هجوميًا ضد طروحاتهم. وغالبًا ما قلت لهم إنني لا أفقه هذه الطروحات وأجهلها وليست من اهتماماتي، ولا قناعة لدي بها ولا بمناصرتها في تظاهرة احتجاجية.

وأنا القادم من صور ومجتمعها المحلي، وعلى لساني لهجتها الصورية الشيعيّة، لم أخجل بلهجتي وما وجدت داعيًا لتغييرها، كي أرطن باللهجة البيضاء الشائعة في الوسط الطلابي البيروتي المختلط طائفيًا وشبه المتجانس في صدوره عن فئات متوسطة وميسورة. وكان الناشطون/ات في النادي العلماني من هذه الفئات في معظمهم. لكنني سرعان لاحظتُ أن بعض الصوريين وسواهم القادمين إلى الجامعة من بيئات المناطق، كانوا يسعون في تبديل لهجاتهم المحلية ممتثلين عن قصد وتصميم إلى التكلم تلك اللهجة البيضاء. وفي صيدا عندما كنت طالبًا ثانويًا في "ثانوية رفيق الحريري" لم أسعَ في تغيير لهجتي إياها التي كانت تثير سخرية مازحة من بعض أقراني الطلاب في تلك الثانوية. وليست لهجتي وحدها كانت تختلف عن الوسط الطلابي "المتمدن" في الجامعة الأميركية، بل نمط حياتي وتفكيري كان مختلفًا أيضًا عن نمط حياة ذلك الوسط الذي يكثر من التحادث بالفرنسية في حال وفادة طلابه من مدارس فرنكوفونية، وبالإنكليزية في حال وفادتهم من مدارس أنكلوفونية. وكان طلاب هذا الوسط وطالباته متجانسين، ومعتدّين بنمط حياتهم ويعتبرونه الأمثل والأرقى، ويكثرون من السهر شبانًا وفتيات في مرابع بيروت الليلية.

وعلى خلاف عدم تآلفي الاجتماعي والثقافي مع نشطاء النادي العلماني، وجدتني على وفاق سياسي معهم، فانخرطتُ في أنشطتهم السياسية، من دون أن أخسر صداقاتي مع طلاب في "حركة أمل". لكنني أنشأت كذلك صداقات مع طلاب يكبرونني سنًا ويحازبون "القوات اللبنانية"، وسواهم من الكسروانيين والعكاريين وبلدات المتن، أولئك الذين يعارضون "حزب الله" ويقيمون على أنماط عيشهم والحديث بلهجاتهم المحلية، من دون سعيهم في تبديلها، فيتعرضون أحيانًا لسخرية الوسط الطلابي الفرنكوفوني والأنكلوفوني "المتمدن".

انتفاضة الجنوب من بريطانيا
وفي سنتي الجامعية الأولى سرعان ما حسمت أمري على متابعة دراستي في بريطانيا. فلا المناخ الطلابي ولا التحصيل الأكاديمي في الجامعة الأميركية أقنعاني لمتابعة دراستي فيها، رغم تفوقي وتحصيلي علامات عالية (92 على مئة) في المواد الدراسية. ثم إنني لم ألمح أفقًا لحياتي الدراسية والمهنية في نهايتها في لبنان. فعدد من خريجي الأميركية الذين تعرفت إليهم، صَعُب عليهم العثور على فرص عمل في لبنان، وهاجروا إلى بلدان الخليج العربية أو أوروبا. كما أنني صادفت طلابًا آخرين على حافة الضياع واليأس، لأنهم خالو الوفاض من حظوة سياسية واجتماعية تمكنهم من الحصول على وظيفة. ورأيت أنني مثلهم في ذلك حالما أنهي دراستي في الجامعة. أما فرص العمل في بلدان الخليج فمقفلة في وجهي لأنني شيعي. ودليلي إلى ذلك رفض السلطات في دولة الإمارات العربية مرتين أو ثلاث منح شقيقتي تأشيرة دخول للعمل هناك، رغم حصولها على عقد عمل في إحدى الشركات الإماراتية، من دون سبب معلن للرفض إلا ذلك المضمر: لأنها شيعية.

وقبل أسبوعين من بداية انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 سافرت إلى بريطانيا لمتابعة دراستي في جامعة خارج لندن. وأنا من كان سامعيّ في مقهى من مقاهي صور يقولون لي أن اخفض صوتي كلما انتقدتُ سياسات الرئيس نبيه برّي، لم أصدق عيناي لما أبصرتُ في بريطانيا شريط فيديو يصوّر أكثر من 5 آلاف شخص يتظاهرون في وسط مدينة صور، ويمزقون في 18 أو 19 تشرين الأول 2019 صور الرئيس برّي وزوجته رندة، فطرتُ فرحًا وتمنيت أن أكون بين المتظاهرين. ثم صرخت بين جمع من أقراني الطلاب اللبنانيين في جامعتي البريطانية قائلًا: خلص تحررنا من نبيه برّي و"حزب الله"، وتحطمت تلك القدسية التي تكتم أنفاسنا في جنوب لبنان كله. ومن بريطانيا عشت يومًا بيوم حوادث انتفاضة تشرين وتظاهراتها في صور والنبطية وكفرمان وبيروت.

ورأيت شرائط الفيديو المصورة في صور والنبطية، والتي بيّنت أن الانتفاضة في الجنوب كانت جذرية وعنيفة أكثر من سواها في المناطق الأخرى. والدليل أن مكاتب نواب "حركة أمل" و"حزب الله" في الجنوب -محمد رعد، هاني قبيسي، علي بزي، ياسين جابر، وعلي خريس- قام المتظاهرون بالهجوم عليها وتحطيمها. وهذا لم يحدث في مناطق أخرى. والنائب علي خريس كان قد جنّد حوالى 50 شخصًا من أزلامه الزعران لحراسة مكتبه في صور، فاشتبكوا مع المحتجين الذين اقتحموه، فسقط من المتظاهرين أكثر من 20 جريحاً، وتدخل الجيش اللبناني وأنقذ حراس مكتب النائب الذي أُقفل بعد الحادثة. لكن علي خريس ظل لأكثر من 20 يوماً يرسل سيارته مفتوحة النوافذ إلى مكتبه استطلاعًا، وهو ليس فيها، بل في سيارة أخرى تسير خلفها مبتعدة عنها مقفلة النوافذ، وصفيقة الزجاج "المفيم".

وبعد انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020، والانهيار المالي والاقتصادي، تابعتُ من بريطانيا ما كان يحدث في مدينتي صور: صار شبان في المقاهي، ونساء ورجال في البيوت، لا يأبهون للهالة القدسية المضروبة حول شخصية السيد حسن نصر الله، فينفرون من كلامه ولا يصدقونه في إطلالاته التلفزيونية.

17 تشرين طلابي
وكان شعورنا لا يوصف نحن الطلاب اللبنانيين في الجامعة البريطانية، فتوقفنا عن متابعة الدروس في الجامعة، ورحنا نمضي الوقت كله في متابعة أخبار الانتفاضة وصورها التي تصلنا مباشرة على وسائط التواصل الاجتماعي، وعشنا حياتنا افتراضيًا وكأننا هنا في لبنان نتواصل لحظة بلحظة مع أصدقائنا في صور وبيروت وسواهما من المناطق اللبنانية المنتفضة. ومن بريطانيا شاركنا في مجموعات ناشطة نشأت عبر تطبيق "واتس آب"، وتبادلنا الأفكار وصوغ الشعارات. ولم يتوقف  تواصلي اليومي مع نشطاء النادي العلماني في الجامعة الأميركية، ولا توقفت مشاركتي في اجتماعاته. ثم انتسبت "أونلاين" إلى "شبكة مدى" الطلابية في الجامعات في لبنان، وأدرت الماكنة الانتخابية لطلاب كلية الهندسة في الجامعة الأميركية للعام الدراسي 2019 – 2020، عبر تطبيق "واتس آب".

وكان ذلك العام الدراسي عام المفاجآت في الجامعات، وخصوصًا في الجامعة الأميركية التي عرفت واختبرت أجواءها: الطالب الذي كنت أساكنه في رأس بيروت وكان مسؤول "حركة أمل" في كلية العلوم والفنون فيها، ويستاء مني عندما كنت أقول نبيه برّي بلا دولة الرئيس، انقلب على "الحركة" في خضم 17 تشرين ووضع على هاتفه المحمول صورة لسمير قصير. خلايا محازبي "أمل" سرعان ما انهارت كلها في الجامعة. والانهيار أصاب محازبي "التيار العوني" ومحازبي "تيار المستقبل" الذين انقلب معظمهم على التيارين هذين، فالتحقوا بمجموعات الانتفاضة الناشطة، فيما انكفأ الباقون وصاروا يخجلون من التصريح بانتماءاتهم الحزبية أو يكتمونها في غمرة الانتفاضة العارمة في بيروت. أما مجموعة "الحزب الاشتراكي" في الجامعة فلم يبقَ منها أحد على ولائه الحزبي. والجدير بالذكر انشقاق أحد المسؤولين الطلاب من الحزب، أي جاد هاني، الذي أصبح بعد سنتيْن رئيس النادي العلماني في الأميركية.

(يتبـع حلقـة أخيـرة)