شاتيلا.. مخيم رابع يندثر بلا أصوات مدافع

أحمد الحاج علي
الثلاثاء   2021/05/25
كل ما في المخيم يشير إلى أنه مركون إلى الفراغ (علي علّوش)
إحدى أهم تأثيرات ما يجري في فلسطين من أحداث، هي كسر الشعور لدى سكان المخيمات الفلسطينية في لبنان بأن المكان الذي يعيشون فيه يكتسب صفة الديمومة. فهذا الشعور لو استقر، لأحدث خللاً وأزمات مضاعفة في العلاقات اللبنانية الفلسطينية المضطربة أصلاً. كما أن أي حدث مفصلي في فلسطين يدفع إلى إعادة النظر بهوية مخيمية تتشكل، لكن يمنع اكتمالها النهائي أمل فلسطينيين بأن الحكاية لم تُسرد خواتيمها بعد. حكاية فيها الكثير من المحطات المثيرة، تحاول "المدن" قراءتها من خلال سلسلة تحقيقات حول المخيمات الفلسطينية في لبنان تُنشر حلقاتها تباعاً (كانت حلقتها الأولى عن مخيم برج البراجنة).
وهنا حلقة ثانية عن مخيم شاتيلا.

قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، كانت المعسكرات تحيط بمخيم شاتيلا، وتقع في قلبه: هنا معسكر الشهيد خالد جواد ومعسكر الأشبال والفتوة في الجهة الجنوبية. وفي الجهة الغربية معسكر صقور التل، وتلك الكلية العسكرية في الجهة الشرقية. وهنالك في الجهة الشمالية، معسكر للجبهة العربية الموالية للبعث العراقي، وفي الجهة نفسها معسكر لمنظمة الصاعقة الموالية للبعث السوري.

صور على جدران
اليوم في الجهة الغربية مقبرة لضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، وفي الجهة الشرقية "مقبرة شهداء فلسطين"، وفي قلب المخيم "مقبرة شهداء مخيم شاتيلا". إنه مآل مخيمٍ، ثورةً واجتماعاً. وما وجود أحزاب، بمعسكراتها، وولاءاتها العابرة لحدود القضية الفلسطينية، إلا مثالاً لصراع أنظمة عربية على مساحة 39576 متراً مربعاً، ولم يكن هذا الصراع ليتيح مصيراً مختلفاً لمخيم ما عاد يشبه المخيمات الفلسطينية الأخرى من الناحية السكانية، وهو الأكثر بؤساً رغم عناد المتطوعين، وجرأة المبادرات.

الصور الملصقة على الجدران لقادة وشهداء فلسطينيين لا تعكس الواقع الديمغرافي بدقة، فغياب صور لأشخاص من جنسيات أخرى ناتج عن اتفاق بين الفصائل الفلسطينية مضى عليه سنوات، يقضي بأن لا تُرفع صور لغير فلسطينيين حتى لا تنتقل عدوى الخلافات اللبنانية الداخلية أو السورية إلى المخيم. فاللبنانيون هم حوالى خمس السكان، والسوريون يقاربون النصف، والبقية فلسطينية. غياب الإحصاءات الدقيقة يجعل الأرقام أقرب إلى التخمين، لكن معظم التقديرات تشير إلى أن الفلسطينيين في المخيم يقترب عددهم من 8000 شخص، من أصل حوالى ثلاثين ألفاً. ليس من المبكر الحديث عن مخيم رابع يندثر، بطابعه الفلسطيني على الأقل، لكن من دون ضجيج وحرب. سبقه النبطية وجسر الباشا وتل الزعتر.

التحوّل السكاني
من مخيم تل الزعتر بدأ التغيّر السكاني. ففي عام 1975 كان عدد السكان 4784 نسمة، في العام التالي لجأ الكثير من سكان مخيم تل الزعتر المهجّر إلى شاتيلا. سكنوا المعسكرات بداية، ثم استقروا في مخيمهم الجديد. إحصاءات عام 1979 تقول إن سكان مخيم شاتيلا بلغوا 8278 نسمة. أي إن حوالى نصف السكان هم ممن قدموا من تل الزعتر. فكم حملوا من مأساتهم، وإلى أي حدّ طبعت هذه المأساة حياة السكان لسنوات مقبلة؟

تغيّر سكّاني آخر بعد الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، حين قدم النازحون اللبنانيون السابقون الذين أخلوا وادي أبو جميل، مفضّلين المخيم بسبب رخص أسعار البيوت. ومع موجة اللجوء السوري عام 2011 حدث التحوّل الكبير، حين أصبح السوريون حوالى نصف السكان في هذا المخيم الفلسطيني. والحصيلة أن غير الفلسطينيين الذين كانوا 216 شخصاً عام 1979 صاروا هم الغالبية.

لكن لماذا لم تحدث إشكالات بين الفلسطينيين واللبنانيين أو السوريين؟ قد يكون ذلك لسببين رئيسيين: أولهما أن السوريين واللبنانيين هم من فئات فقيرة، فتشابهوا في واقعهم مع الفلسطينيين، و"الغريب أخ الغريب". والسبب الثاني، أن القادمين الجدد لم يزاحموا الفلسطينيين على "سلطتهم".

جغرافيا البؤس
على جدران المخيم، تدوين لكثير من المحطات التاريخية: مذبحة قبية، تل الزعتر، النكبة، ليس من بينها تاريخ يحمل الأمل. هل هو خطأ في اختيارات من أطلقوا المبادرة، أم هو عجز القيادات الفلسطينية على حمل السكان إلى المستقبل، بدلاً من أن يكونوا أسرى للماضي؟ معاناة رشيد أيوب ترجّح السبب الثاني. فهذا السبعيني، الذي يُسند قلبه بأربع دعّامات، تخلّى عن الدواء الضروري للمحافظة على حياته، من أجل تغطية تكاليف علاج زوجته المصابة بالسرطان، وقد توقف ابنه عن الشغل بعد إجراءات الوزير العمل كميل أبو سليمان عام 2019.

مخيم أكثر من نصف شبابه عاطل عن العمل. قبل 42 عاماً لم يكن في المخيم أكثر من 138 عاطلاً عن العمل. في ذلك العام كان المتعلمون، والحرفيون، ومؤسسات "صامد". تراجع دور التعليم، وأدّت الحرب إلى دمار "صامد"، والحرفيون السوريون منافسون، سعراً وإتقاناً. وفي عام 2005 يزور وزراء لبنانيون المخيم، بعد اجتماع لجنة الحوار اللبناني، شاهدوا المأساة، بكى بعضهم، ثم خرجوا، من دون تغيير في الوقائع والقوانين.

بوجود نسبة بطالة تتجاوز 60 بالمائة، وبيوت تتنافس على الهواء المتبقي، وتصدّ أي إمكانية لوصول أشعة الشمس، كانت الآفات الاجتماعية تنشأ وتكبر، حتى غدا المخيم في بعض مراحله مكاناً مثالياً لنمو ظاهرة تجارة المخدرات. وشهد شاتيلا عدة "انتفاضات"، ضد المروجين، أطاحت أحياناً ببعض السكان خارجاً، وكان أكثر اتساعاً في نهاية عام 2016. حرب المروّجين البينية أضعفتهم، ودفعت إلى من تبقى منهم حياً أو طليقاً، إلى التواري عن الأنظار، من دون أن يختفي الترويج تماماً.

إلى الحرب
كُتب على أحد الجدران تاريخ ميلاد المخيم: 1949. لا انفصال في هوية الفلسطينيين بين قراهم ومخيماتهم. لذلك فهم يحفظون تاريخ مخيمهم كما حفظوا من روايات أهلهم تاريخ قراهم ومدنهم التي هُجروا منها. في أرض عبد الله صعب، من بلدة شويفات والمهاجر إلى البرازيل، نصب الصليب الأحمر الدولي 12 خيمة، على ما سيُعرف بعد ذلك باسم مخيم شاتيلا، نسبة إلى سعد الدين شاتيلا، وكيل صعب. يكبر المخيم، ويتوسع، ليصل عدد سكانه إلى 1364 بعد عامين.

شاتيلا الخمسينات على موعد مع حركة القوميين العرب، كمعظم المخيمات الفلسطينية في لبنان، والذين سيكونون رافداً أساسياً للجبهة الشعبية مع انطلاقتها عام 1967، وتواجدها العلني بعدها بعامين، مع اتفاق القاهرة. أما البعثيون فقد انقسموا في ولائهم ما بين العراق وسورية، وانقسم موالو سورية من البعثيين ما بين مؤسسهم صلاح جديد والسلطة الجديدة بقيادة حافظ الأسد.

أُضيف قصف مخيم شاتيلا عام 1975 إلى جملة أسباب دفعت ياسر عرفات لخوض حرب لا يريدها، والسير مرغماً في قرار عزل ليس بحساباته الفلسطينية. يتقدّم العسكر في أجواء الحرب، ليحتلوا مكاناً شغله يوماً مثقفون. وصار بناء ملجأ، وتحصين معسكر، أهم بكثير من الاعتراض على شبه توقف للعملية التعليمية في مدرستي أريحا والجليل.

اللجنتان الشعبيتان في المخيم تقاسمت اليوم إدارة شبكات المياه المهترئة، والكهرباء شبه المنقطعة. لجنة يتولاّها تحالف القوى الفلسطينية تدير شبكات المياه، ولجنة تتولاها منظمة التحرير تدير الكهرباء. تقول الأرقام إن 91 بالمائة من بيوت المخيم عام 1980 كان يصلها المياه الصالحة للشرب. اليوم رجاء السكان أن لا تتضرر شبكة "آبار البحر"، كما يسمّونها لكثافة ملوحتها.

أما الكهرباء فقد انقطعت تسع سنوات ما بين عامي 1985-1994، أي منذ بداية حرب المخيمات بين الفلسطينيين وحركة أمل، والتي خلّفت مقبرة في مسجد فلسطين يرقد فيها 575 شخصاً، من بينهم علي أبو طوق، القائد الفلسطيني الأكثر تأثيراً في وجدانهم، وحفراً في ذاكرتهم.

هي واحدة من محطات تاريخية ثلاث لا يرغب الفلسطينيون في المخيم بخوض تفاصيل الحديث فيها. فهناك أيضاً المجزرة في أيلول عام 1982، التي فشل بعض ضحاياها في كسب دعاوى قضائية ببلجيكا ضد شارون. وحدث ترك مرارة في نفوس السكان هو المعارك الداخلية بين فتح المركزية بقيادة أبو عمار والمنشقين عنها، والمدعومين سورياً، منتصف عام 1988. محطات قادت إلى تدمير ما يصل إلى 80 بالمائة من مساحة المخيم، وتهجير جزء من سكانه، وإخراج فتح من المخيم إلى صيدا، ولم تعد إلاّ بعد عام 2000.

الفراغ والوجع
تيارات سياسية أساسية ثلاثة في المخيم، هم فتح، وحماس، وتيار دحلان، الذي يحاول التمدد من البوابة الاجتماعية. تراجع حضور الجبهة الشعبية والديمقراطية بعد عام 1990، وكذلك فإن الانسحاب السوري من لبنان (2005)، أضعف حضور فتح الانتفاضة والقيادة العامة والصاعقة.

كل ما في المخيم يشير إلى أنه مركون إلى الفراغ. من الخدمات المفقودة، حتى الشباب المستند إلى الجدران دون عمل، وصور قادة الفصائل المرفوعة عالياً فوق أسلاك الكهرباء بغياب مشروع يؤكد أحقية تلك المكانة. ومع ذلك ثمة من يتحدّى بؤس الحال، ويُطلق مبادرات تبدو في صراع غير متكافئ مع الواقع، كما هو حال الفلسطينيين دائماً. فهذا محمود هاشم جمع عشرات الأطفال في "الملتقى الفلسطيني للشطرنج" قبل ثمانية أعوام، وأطلق مبادرة مستمرة، تهدف إلى تنمية قدرات أطفال المخيم بهذه اللعبة.

ومن المبادرات البارزة في المخيم، ما أطلقته رابطة مجد الكروم، خلال شهر رمضان، واستطاعت توزيع حوالى 4000 وجبة غذائية يومياً. توزيع غير محصور بحدود المخيم، بل يصل إلى الأحياء اللبنانية المجاورة، ومخيمات ومناطق بعيدة كمخيم عين الحلوة. ما عدا ذلك، فإن الفقر، ووجع الناس المتبدّي في وجوههم وحكاياتهم، يشي بأن الحرب في مخيم شاتيلا لم تنته بعد، وإن سكتت مدافعها، أو هي لم تنم سوى ليلتين صغيرتين، كما قال محمود درويش حين تحدّث عن شاتيلا.