الجميّزة: المسرح الأول.. والأخير

نادر فوز
الخميس   2020/08/06
حلم شبه مستحيل بإعادة الحياة إلى سابق عهدها في هذه الأحياء (علي علوش)
نزولاً من شارع الجميّزة إلى أوتوستراد شارل حلو المطلّ على مرفأ بيروت، جمعٌ من المواطنين حول سيارة محطّمة بالكامل. هنا كان عصف الانفجار الأشدّ، في المنطقة المفتوحة كلياً على المرفأ. داخل السيارة، بقايا بشرية مشتّتة ومتناثرة. صاحبها، أو صاحبتها، نقل من السيارة بمشهد فظيع بعد ساعات على زلزال التفجير. ضرب المواطنون طوقاً حول السيارة وتواصلوا مع عناصر من الصليب الأحمر، التي رفعت عنها مسؤولة لململة الأشلاء. فتطوّع أحد الموجودين، مضطراً، لجمع البقايا البشرية من دون أن يعرف ماذا يفعل بها، ولا لمن يسلّمها.

في المقلب الآخر من الجميّزة، على رأس درج مار نقولا، شجرة سقطت بطولها الفارع وسدّت جزءاً من الطريق. قد تكون فعلياً هذه هي الجميّزة، الشجرة. سقطت على حالها، ولا مجال لرفعها إلا بتقطيعها. تماماً كما حال حيّ الجميّزة اليوم. وقع على حاله، ولا مجال لاستعادته إلا بتهديم جزء منه. ومع هذا الطرح، نستعيد جرح ما حصل في وسط البلد، في المنطقة المسمّاة اليوم "سوليدير". محت عملية إعادة إعمار العاصمة بعد الحرب الأهلية، بيروت القديمة. جريمة 1976، كانت تتمتها باقتراف محو ما تبقى بعد العام 1991. قضت على ملامحها العمرانية والبشرية والاجتماعية. هدمتها وبنت فوقها مدينة أخرى مجهولة، كأنها من دون هوية ومغزى. ذاكرة بيروت، انتهت يومها. والتهديد يطال ذاكرة معظم الأحياء المتاخمة لها، وتحديداً الجميّزة التي كانت الأكثر حفاظاً على طابعها الثقافي. وهذا الطابع مهدّد اليوم.

شجرة الحياة
تعود بنا هذه الشجرة، وما أضحت عليه على درج مار نقولا، إلى أصل الجميّزة. أواخر القرن التاسع العشر، كان هذا الحيّ في منطقة الصيفي، يسمّى بالـ"البيارة" لكثرة الآبار وعيون الماء فيها، بحسب أكثر من مرجع توثيقي لمدينة بيروت. كان فيه شجرة جميّز، يجتمع تحتها الأهالي. تم تقطيعها وبني على أنقاض جذعها مقهى، عرف بمقهى الجمّيزة لتستمدّ المنطقة لاحقاً منه اسمها. على أنقاض الجميّزة الأولى، بنيت المنطقة وسرت فيها الحياة. هي شجرة الحياة. وعلى أنقاض الشجرة الثانية، حلم شبه مستحيل بإعادة الحياة إلى سابق عهدها في هذه الأحياء. سيعود النشاط، ستعود الحياة، سيستمرّ الوجود، لكن من دون طعمه الأساسي المهشّم أساساً منذ سنوات الحرب وما تلاها.

تراث عمراني
الجميزة، منطقة ذو طابع تراثي. من الأحياء القليلة في بيروت التي لا تزال لافتات الدولة اللبنانية تشير إلى أنها تراثية، حافظت لسنوات على مبانيها الأثرية وتاريخها العمراني. بدأ الباطون والزجاج بابتلاعها مطلع التسعينيات، بقرار من وزير الثقافة حينها ميشال إده، الذي فتح المجال أمام العمران الجديد مع الوصاية بالمحافظة على طابعها التراثي. ومع مرور الوقت، ترجم القرار وتطوّر حيث بات المالكون، عبر عبقرية المهندسين الشريرة، يسقطون ذلك التراث. يفرّغون المباني من كل ما فيها، ويتركون واجهاتها الأثرية لناطحات سحاب تخنق الأحياء الأخرى. الجميّزة، ليست شارع سهر، ولا آخر موازٍ له فيه مكاتب ووظائف. هي أحياء سكنية متشعّبة، والعديد من الأدراج الخفيّة، التي تخفيها ضوضاء حركة الشارع.

هواء بحري
في الجميّزة اليوم، وصلت نسمات هواء غريبة على المنطقة. في آب وصل هواء من البحر. قد يعود ذلك، ربما إلى مأساة الدمار الذي حلّ على المباني الضخمة وكل ما فيها من باطون وزجاج. فأعادت المأساة دفع الهواء البحري، المقطوع عنها منذ عقود، إلى أحيائها الداخلية. تنفّست المنطقة هواء البحر من جديد، ولو أن طعمه مرّ. كانت الجميّزة، منذ حركة عمرانها، ضاحية شمالية أولى للعاصمة. مثل ما أنشئت منطقة البسطة ضاحية جنوبية أولى لبيروت، أنشئت الجميزة ضاحية على الطرف المقابل. سكن أهلها خارج أسوار العاصمة، وقطنها أصحاب مال ونفوذ. لكن مع توسّع الحركة السكانية واشتدادها في هذه الضاحية الصغيرة، تركتها الطبقة الغنية صعوداً باتجاه الأشرفية (المصيف أساساً) حيث بنيت القصور بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

تنوّع متنوّع
لم تكن الجميزة يوماً ضاحية مهمّشة، بل تنوّعت بين متموّلين وطبقة وسطى وفقراء. ولا تزال إلى الآن تحافظ على تنوّعها الطبقي. كما أنها متنوّعة عمرياً، ومهنياً أيضاً. كان لها أيضاً قبضاياتها كما باقي المناطق البيروتية. إلى هذه الضاحية الصغيرة، لجأ تجّار وصناعيون وحرفيون، لا يزال أحفاد بعضهم مستمرّاً في هذه الأعمال. نجّارون، خيّاطون، حلّاقون، صانعو فخّار وعرق، وغيرهم، غلبهم مع الوقت الطابع السياحي والخدماتي الذي استولى على الحيّ. لكن هذه المهن لا تزال صامدة في بلد لا حياة للحرف ويدها العاملة فيه. ففي خبايا الشوارع الداخلية، لا يزال أصحاب ورش نجارة وزجاج يعملون في محالهم، لا تلمحهم العيون إذ تكون منشغلة بأمور أخرى. وفيها أيضاً بيوت صغيرة تحافظ على أناقة بنيانها وقرميدها ولو بثمن مرتفع. وفي الأحياء أيضاً غاليريهات فنية، انطلاقاً من درج الألوان والفنون وصولاً إلى المعارض والمحترفات. وما غّذى هذا التنوّع أيضاً وجود المدارس في الجميّزة، إرساليات أجنبية كانت أو محلية، جعلت منها حياً متكاملاً. "الفرير"، "العائلة المقدسة"، "التلات أقمار" وغيرها.

المسرح الأول
نعرف الجميّزة اليوم، كمكان للسهر وتمرير الوقت. لكن قبلها كانت فعلياً سوقاً صناعياً واقتصادياً على مدخل بيروت. سكن أطرافها عمّال المرفأ، وداخلها تجار بيروت وأرستوقراطيوها. لكن ما لا يُعرف كثيراً، أنّ في هذه المنطقة شيّد المسرح الأول في لبنان، على يد مارون نقّاش عام 1848. قدّم نقّاش "البخيل"، بتصرّف من موليير، على خشبة بناها في منزله. وإذ بالجميّزة تتحوّل اليوم إلى مسرح لأعمال أخرى، تقدّم لنا ترجمة فعليةً لمعنى القتل الجماعي المنظّم على يد سلطة واحدة تمعن في قتل الناس وخنقهم بشتى الوسائل.

الجميزة كانت المسرح الفعلي الأول، وعلّها تكون أيضاً المسرح الفعلي الأخير لأعمال هذه السلطة وأحقادها. تدفع اليوم ثمناً باهظاً نتيجة الإهمال والفساد واللا مسؤولية. دمّرتها السلطة ولم تترك فيها حجراً واحداً. فإن أعيد تسطيحها، قد تكون فعلياً مسرحاً لعرض مشهد أخير للقضاء على المنظومة القاتلة.