"عرب خلدة" يشيّعون قتيلهم في العمران البرِّي للهويات المحتقنة

محمد أبي سمرا
الجمعة   2020/08/28
غاب شبان "الثنائي الشيعي" عن مشهد التشييع، وتركوا "عرب خلدة" يطلقون غضبهم (مصطفى جمال الدين)
شيّع "عرب خلدة" السنّة، ظهر نهار الجمعة 28 آب الجاري، قتيلهم الفتى حسن زاهر غصن (14 سنة) الذي سقط برصاص مجموعة شبان مسلحة من أنصار حزب الله الشيعي في خلدة.

قتلى وجرحى وثأر
وكانت هذه المجموعة قد شرعت عصر نهار الخميس بإطلاق النار على الشيخ عمر الغصين قرب سوبر ماركت رمال في حي "عرب خلدة"، لأنه مانع تعليق لافتات عاشورائية في الحي. أصيب الشيخ بجراح في يده ورجله، واستمر شبان حزب الله (يقال إن أحدهم من آل شبلي، مالكي مبنى سنتر شبلي الذي فيه السوبر ماركت الكبير) في إطلاق النار عشوائياً على من حاول اسعاف الشيخ الجريح. فقتل الفتى غصن والسوري محمود هدول، وأصيب ثمانية أشخاص بجروح، منهم اثنان من آل غصين.

وفي المساء قام شبان "عرب خلدة" ورجالهم بإحراق سنتر شبلي وسوبر ماركت رمال، ثأراً وانتقاماً، واطلقوا في الأثناء رصاصاً عشوائياً غزيراً. وكانت أخبار ليلة الخميس - الجمعة الدامية في خلدة، قد شغلت الإعلام ومنصات المتواصل، لشدة إطلاق النار العشوائي المتقطع وتبادله في المنطقة.

وحسب رواية شاب من "عرب خلدة" في الحي الذي شُيِّع فيه القتيل على تلة بين المباني السكنية القريب من مثلث خلدة، أن "مصالحة" بين "عرب" الحي ومجاوريهم الشيعة، كانت قد جرت نهار الخميس، بعد إقدام شبان شيعة على تعليق لافتة في الحي قرب سوبرماركت رمال، تمجّد سليم عياش المتهم باغتيال رفيق الحريري، وعليها صورة عياش. وهذا ما حمل شبان "عرب خلدة" السنّة في الحي على نزع اللافتة، فنشب خلاف بين الطرفين طوته "المصالحة".

لكن الشبان الشيعة سارعوا إلى تعليق لافتة عاشورائية. ويقال إن شبان "عرب خلدة" حاولوا نزعها، فتوتر الجو وبدأ إطلاق النار. والقتيلان والجرحى ليسوا من مطلقي الرصاص، بل من غير المسلحين العابرين أو الواقفين هنا وهناك في مرمى الرصاص العشوائي. وتمدد إطلاق الرصاص إلى الأتوستراد السريع، حيث المتاجر والمطاعم، فتضرر مطعم "أطيب فروج"، وعلى مسافة أمتار منه هيكل سيارة محترقة. وفي طريق إلى التلة لا تزال سيارة جانحة متوقفة وسط الطريق الصاعد إلى في حي "العرب".

مشاهد من التشييع
وفي تشييع القتيل الفتى من آل غصن - وهو انطلق من طريق مثلث خلدة القديم، وسار تحت جسر الأوتوستراد السريع صاعداً إلى حي "عرب خلدة" - أُطلقت زخات كثيفة من الرصاص، ظلت تندلع وتلعلع متقطعة حتى وصول موكب التشييع إلى أعالي الحي، حيث قيل إن هناك جامع "العرب" ومقبرة موتاهم. وكانت الكاميرات التلفزيونية والصحافية والهواتف الخليوية حاضرة بكثافة وتلتقط صوراً للموكب وسط زخات الرصاص الذي يطلقه المشيعون، وكلهم من "عرب خلدة" الساكنين في المنطقة، إلى الوافدين "العرب" من أحياء ومناطق أخرى للمشاركة في المناسبة الأليمة.

ويبدو أن شبان "الثنائي الشيعي" في الأحياء القريبة غابوا تماماً عن المشهد، وتركوا لـ"عرب خلدة" تشييع قتيلهم وإفراغ مخازن أسلحتهم غضباً في حيهم وقرب مسجدهم وفي مقبرتهم خلف الحي.

وفي الشوارع الصاعدة التي سار فيها موكب التشييع، كان شبان "عرب خلدة" في حال من التوتر والاحتقان بثيابهم السود غالباً، وبنادقهم الرشاشة التي يبدو أنهم غير متعودين على إشهارها، بل يحاولون إخفاءها إلى جانب أجسامهم، بعد إطلاقهم رشقات منها في الهواء وسط الموكب الصاعد إلى المقبرة.

ورأيت في نهاية الموكب رجلاً يحمل حقيبة صغيرة معلقة بكتفه ويمسك هاتفاً خلوياً، فحسبته من الصحافيين. لكنه حين ركض خطوات ليدرك المشيعين، سقط فجأة من تحت ثيابه عن خاصرته مسدس إلى الأرض، فراح يلتفت يمنةً ويسرة حائراً خائفاً مستطلعاً إن كان أحد يراه، قبل أن ينحني ويلمّ المسدس ويمسحه من غبار علق به، ويعيد دسّه تحت ثيابه على خاصرته، ليواصل الركض صاعداً في الطريق.

وفي الطريق الصاعدة إلى الحي والمقبرة خلفه، رأيت لافتة معدنية منصوبة على مفرق، مدون عليها "عشائر خلدة" مع سهمين يشيران إلى الاتجاهين المتفرعين من الطريق. وفي أعالي الحي لافتة أخرى مدون عليها شارع "الشهيد أحمد نوفل". وقد يكون نوفل هذا سقط ضحية في اعتداء أو اشتباك سابق. أما اللافتة الإعلانية الكبيرة والضخمة القريبة من الأوتوستراد السريع فدُوِّن على معدنها الرصاصي بخط عشوائي مرتجف "عرب خلدة، شبان العرب، تيار المستقبل".

شبان العمران البري
ووسط حي العمران البرّي على التلة اجتمعت حلقات من شبان "عرب خلدة". شبان متوترين خائفين حائرين ماذا يفعلون، فيما موكب التشييع كان قد دخل إلى المسجد، وارتفعت تلاوة آيات قرآنية. وبين الشبان من وضع قناعاً أسود على وجهه. ومنهم من يعتمر كوفيه سوداء. ومنهم من ينشغل في تنظيم سير السيارات.

عشرات من الشبان والرجال المتحلقين يتراوون أحاديث عما حصل مساء أمس. وكلهم في حال من الترقب والانفعالات الفوضوية التي لا يدركون كيف يتدبرونها ويصرفونها. كأنهم حائرون ماذا عليهم أن يفعلوا وكيف يتصرفون.

والكلمات المدونة على اللافتات في حيهم تظهر أنهم في طور ترسيخ هويتهم في المكان: "عرب خلدة"، بعدما انضم إليهم قسم من "عرب المسلخ" ووفادتهم إلى خلدة وشرائهم شققاً سكنية في عماراتها، وغداة تلك الوفادة والإقامة. وقبل عرب "المسلخ" كان قد أتى بعض من "عرب وادي خالد". ووحدها كلمة العرب ثابتة في تعريفهم عن أنفسهم وانتمائهم. أما أسماء الأماكن التي تضاف إلى كلمة العرب، فتتغير وتتبدل. وهم اليوم في طور الانتماء إلى خلدة والثبات فيها. وهم يدفعون دماً ضريبة هذين الانتماء والثبات.

لكن العمران البري في هذه المنافي السكنية على تلال خلدة، هو اليوم ومنذ عقدين أو ثلاث من السنين، مرتع للفوضى والتذرر وعنف الهويات المحتقنة بين غضب "العرب السنّة" الخاوي، والمرغمين عليه على الأرجح، وبين عُظام القوة الشيعي المسلح، ورافع السلاح إلى مرتبة مقدسة، ومُنزِلَه مَنزِلَة الهوية الممتلئة بعُظامها.

وشاءت أقدار عرب وادي خالد في مضارب رعيهم ومواشيهم بين عكار والوادي البقاعي الشمالي، أن ينقلهم تبدل أنماط العيش والمعاش إلى مقربة مسلخ بيروت، ليعملوا فيه. فصاروا "عرب المسلخ". ثم هجّرتهم الحرب الأهلية في بداياتها إلى مسابح خلدة، حيث رعى انتقالهم وهجرتهم من المسلخ الحزب التقدمي الاشتراكي، ليقطنوا مع "عرب خلدة" بسبب القرابة العشائرية.

وها هم يقيمون اليوم في مساكن العمران البري على تلال خلدة، حيث توسعت التجمعات السكانية الشيعية وتكثفت وتمددت، ليجد "عرب خلدة" أنهم في قلب احتقان الهويات المتنازعة.

وشيّعوا قتيلهم الفتى، وأطلقوا زخات من الرصاص في الحي وقرب الجامع وحول المقبرة. وبعد مدة سوف يرفعون في الحي لافتة جديدة باسم قتيلهم الفتى، ويسمون باسمه شارعاً، ليسمى الفتى القتيل أو المغدور شهيداً.