بول أشقر و"المبادرة-درابزين 17 تشرين": لا عودة إلى الصفر

نادر فوز
الثلاثاء   2020/08/25
أكثر من 80 مجموعة وهيئة في السياسة والمناطق والقطاعات وافقت على "المبادرة" (Getty)
من بين الوجوه التي لا مناص منها في شوارع بيروت، بول أشقر. ألِفته ساحات الاحتجاج، قاعات اللقاء والحوارات المتنقّلة. مبادرات متلاحقة بعناوين مختلفة ومحطّات متنوّعة. منها المرتبط بالماضي والحرب الأهلية، ومنها المتمسّك بطرح التغيير. وكلها تصبّ في خانة واحدة معادية لرموز القتل والفساد والتهجير والاستنزاف والطائفية. بول، ستيني على مشارف السبعين أو تخّطاها ربما، لا نعرف ولا يهمّ. شبابي أكثر من طالب جامعي أو ثانوي حتى. من الطينة التي لم تملّ، ولا تكلّ تبحث عن "الكوّة" في الجدار. هي الكوّة نفسها التي يبحث عنها المجتمع الخارج عن السائد منذ سنوات الحرب الطائفية. وفي واقع مذهبي بحت، بات البحث عن تلك الكوّة أصعب، ولو أنّ جزءاً من الجدار هُدم مؤخراً مع ثورة 17 تشرين، وقبلها مع حراك 2015 وقبلها مع إسقاط النظام الطائفي.

الكوّة الضائعة
بول أشقر، من بين كثر آخرين، وجدوا الكوّة. قدّموها لنا منذ الثمانينات على شكل طرح الدولة المدنية، ثم نبذ الحرب الأهلية و"تنذكر تما تنعاد" والإصلاح الإداري والسياسي "بلدي، بلدتي.. بلديتني"، و"حقنا نعرف"، وغيرها. في ثورة الأشهر الأخيرة، أطلّ أشقر وغيره على شُرفة تطلّ على ما حقّقه الناس من مكتسبات. تدمير هالات رموز سلطوية هنا، وإسقاط حكومة أولى وثانية، تعليق المشانق في العلن، صعود ضوء شعار "هيلا هو" في مكان آخر. صُنعت وحدة شعبية كسرت المركزية والمناطقية والمذهبية، والكثير غيرها. من هذه الشرفة، بول وغيره يبنون درابزيناً ضرورياً. فبينما يتمّ البحث في "حكومة الثورة" واقتراحات سياسية أخرى لمواجهة المنظومة، ثمة من يسعى أولاً إلى تكريس الانتصارات التي تم تحقيقها منذ 17 تشرين. بهدوء تام، من دون عجلة ولا خطوات ناقصة، سياسياً وتنظيمياً وشعبياً ورؤيوياً، ثمة "درابزين" يجب أن يُبنى.

درابزين الثورة
لا يعمل بول أشقر وحيداً، كما دائماً. حوله العديد من الأصوات والوجوه والجمعيات والتنظيمات والشخصيات. هو الحائج أساساً اليوم تحديداً إلى صوت وأصوات، يجسّد بحدّ ذاته  درابزيناً لحياة نبحث عنها منذ عقود. كأنه مع كل مبادرة أو شعار يساهم في رفعه، يبني حيطاً سميكاً لحماية المكتسبات. ومن هنا اسم "درابزين". "نحن بحاجة إلى درابزين لحماية الثورة ومكتسباتها، يمنعك من الوقوع، يسمح لك بالنهوض إن وقعت، يعيد إليك توازنك". درابزين، هدفه "حماية "الحراك" الشعبي المناطقي والنقابي والشبابي من دخول أجندات سياسية فوقية متسرّعة"، و"حمايته من طائفية أحزاب السلطة وحلفائهم الخارجيين للحفاظ على روح 17 تشرين وإمكانية بناء قوة ثالثة في الحياة السياسية اللبنانية". لذا كانت "المبادرة". 

"المبادرة"
المبادرة، ولو أنها بـ"أل التعريف"، ليست إقصائية ولا فردية ولا تدّعي الاحتكار. أساساً مهمّتها الأولى، كما يقول أصحابها وبول أشقر منهم، التأكيد على "المشترك الذي يجمع كل مكوّنات 17-10". أقلّ من ائتلاف أو جبهة، لكن أوسع من موقف أو بيان أو عريضة. تبحث "المبادرة" فعلياً أن تكون الدرابزين الحامي، لتأسيس عقد بين المجموعات والهيئات والناشطين والمناضلين من كل المناطق وفي كل القطاعات. مساعيها واضحة في التواصل مع كل الناس، من فقدوا الأمل والمستمرون بالنضال في الشارع. التأكيد على أنّ لا عودة إلى نقطة الصفر كما درجت العادة في التجارب السابقة. جمع كل هذه المكوّنات على بناء مشترك وتوافق مبدئي بغية تنظيم كل ما فيه وما حوله. هي مبادرة الرقعة الأوسع، تحاول الجمع على مبادئ وأهداف واضحة ومكرّسة لا لبس فيها.

أهداف وبرنامج
تطرح المبادرة هدفين أساسين، الأول صياغة برنامج فعلي يمثّل الناس ومطالبهم ومصالحهم، والثاني العمل على "توفير الملتقى القادر على استقبال كل من أعادت إليه وإليها 17 تشرين الأمل". أما تفاصيل البرنامج الجامع فمن عناوينه "وقف تداعيات الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي والبيئي، عبر خطة إنقاذية شاملة عادلة في توزيع الخسائر بين متسببي الانهيار والمستفيدين منه وضامنة للأمن الغذائي والسكني والصحي والتعليمي وودائع الناس". والعناوين الأخرى أبرزها: تبنيّ التغييرات السياسية والمجتمعية العميقة والمطلوبة لشقّ الطريق نحو دولة مدنية ديموقراطية حديثة، تطبيق المواد الدستورية (و/أو تعديلها حسب الأصول) مما يضمن فصل حقيقي للسلطات وإقرار قانون استقلالية القضاء كمدخل لإعادة بناء مؤسسات دولة المواطنة، تكريس وصيانة الدفاع عن الحريات العامة والخاصة مقابل دولة القمع والترهيب، التحول إلى اقتصاد متوازن ومنتج قائم على التنمية البيئية والمستدامة ويمنع تشكّل الاحتكارات ويؤمّن العدالة الاجتماعية، والتعاطي مع الخارج انطلاقاً من سيادة الدولة والمصلحة الوطنية العليا. برنامج يطرح العناوين، قابل للتطوير والتفصيل، يلقى إجماعاً بين مختلف المكوّنات.

حتى مساء الإثنين، وافق على الدرابزين والمبادرة، 22 من الأحزاب والمجموعات، و36 من الهيئات والساحات المناطقية والقطاعات. ووصل عدد الأطراف التي وافقت على المبادرة إلى 80. ومن المفترض إطلاق الإعلان عنها إعلامياً بغضون أيام، إذ لم تسعفهم ظروف كورونا في تنظيم حشد عام.

لا يتطلّب البحث في الواقع اللبناني المأزوم الكثير من الجهد للتأكيد على أنّ المنظومة الحاكمة مسؤولة عن كل الانفجارات التي هزّت لبنان وصولاً إلى انفجار القتل العمدي والمباشر يوم 4 آب. انفجار مالي، آخر اقتصادي، ثالث صحي، رابع دستوري وخامس يلخّص كل الخلل وسقوط مؤسسات الدولة. سلسلة انفجارات تؤكد حجم الهوّة التي وضعت المنظومة اللبنانيين فيها، واستكملت في مهرجان البوارج الدولية المستمرّ قبالة الشواطئ، والتهديدات السياسية المستمرة بانقلابات مسلّحة. لا يتطلّب هذا الواقع وكل التفاصيل اليومية للفشل والدمار، تأخير في إعلان مبادرة واحدة جامعة للتأكيد على أنّ منظومة القتل فشلت وسقطت، والواجب محاسبتها.