انتحار فليبينية واعتصام أثيوبيات ومأساة عمال "رامكو".. لبنان العذاب

نادر فوز
الإثنين   2020/05/25
عاملات أثيوبيات تعتصمن منذ أيام أمام سفارة بلادهن التي لا تساعد بل تعمل بالسمسرة (Getty)
توفيت يوم الأحد عاملة فليبينية متأثرة بجراحها، بعد أن رمت نفسها السبت من غرفتها في ملجأ يفترض أنه آمن، تديره السفارة الفلبينية في لبنان. هو الملجأ نفسه الذي أثيرت حوله الضوضاء قبل أيام، بعد أنّ أكدت أكثر من نزيلة فيها لصحافيين ووسائل إعلامية لبنانية أنه تحوّل إلى مكان للحجز. ملجأ مسيّج، غرف تحت الأرض، وأخرى لا تدخلها الشمس، كثافة عدد المتواجدين فيه محشورين بين أمتار الغرف، طعام مزر، لا معقّمات، حركة دخول وخروج ممنوعة. ملجأ يفترض أن يكون آمناً تحوّلت غرفه إلى زنازين احتجاز، وكلها عوامل تزيد مآسي ما عاشته العاملات خلال عملهنّ في لبنان. في هذا المعتقل الصغير، ضحية أولى سقطت. لم نعرف اسمها حتى. لكنها رمت بنفسها لتضع حداً لكل ما تعيشه من ضغوط وألم. لم نعرف اسمها، إلا أنّ الأكيد أنّ انتحارها جاء ليعيد تسليط الضوء على كل ما سبق. لكن لنسمّها "إكس".

"إكس" في الحجر
وصلت "إكس" إلى ملجأ السفارة يوم الجمعة 22 أيار الجاري. قفزت من غرفتها السبت، وتوفيت الأحد، بعد ساعات من ذلك. ويشير البيان الصادر عن السفارة الفيليبينية إلى أنّ التحقيقات مستمرة لمعرفة تفاصيل الحادثة، مع التأكيد على تواصلها مع أخت الضحية في الفيليبين وإحدى قريباتها في لبنان. وفي هذا السياق، علمت "المدن" أنّ "إكس" وضعت في غرفة في العزل، بسبب قدومها حديثاً إلى الملجأ، تطبيقاً لإجراءات كورونا. وكان يفترض أن تبقى في الحجر 15 يوماً، وفق المدة الزمنية المحدّدة تبعاً للوقاية من كورونا ومنع انتشاره. لكن ثمة ما حصل بعد ساعات من وصولها إلى المكان. ثمة ما منع "إكس" من الاستمرار في الحجر والانضمام لاحقاً إلى سائر نزيلات الملجأ.

توقف الاتصالات
يأتي انتحار "إكس" مكمّلاً للأجواء الظالمة السابقة التي أشارت إليها نزيلات أخريات في الملجأ. والاحتجاج على تلك الظروف، دفع السفارة إلى طرد النزيلة التي تواصلت مع الإعلام، أو بلغة أخرى إعطائها حق الرحيل عنه. ووفق المعلومات التي توصّلت إليها "المدن"، فإنّ للسفارة الفيليبينية في بيروت مركز للإيواء وآخر للحجز. والأخير تبقى فيه العاملات لأيام قبيل ترحيلهم، بعد إتمام الأوراق اللازمة والحصول على أذونات السفر. والقدرة الاستيعابية لمركز الحجر، أو مركز العبور، 90 شخصاً يشغره حالياً 26 نزيلة منذ شهر آذار، حين توقّفت المعاملات الإدارية، نتيجة إقفال المطار بسبب فيروس كورونا. وفي هذا المكان، كان يسمح للنزيلات بالاحتفاظ بهواتفهن والتواصل مع من يردن في الخارج، إضافة إلى استقبال الحاجيات من أصدقاء أو صديقات في الخارج. إلا أنّ السفارة قامت قبل مدة بمنع الهواتف فيه، فصادرتها لأسباب مختلفة. الأمر الذي حوّل المكان إلى سجن مقطوع فيه الاتصال بالخارج. فحصل الاحتجاج الأخير وتمّت الإضاءة على جملة من الأمور الأخرى، التي ظهرت في كلام عدد من نزيلات مركز الحجز.

مركز الإيواء
قفزت "إكس" من غرفتها في الطابق الثالث من مركز الإيواء. وهو مركز تم تجهيزه سابقاً لاستقبال المواطنات الفيليبينيات اللواتي تعرضّن للعنف أو الضرب، ولمن حياتهن مهددة. لمن هنّ بحاجة إلى الحماية من رب عمل أو زوج أو شخص آذاهن أو ينوي ذلك. ومن المفترض أن يأوي هذا المركز 50 عاملة أو ناجية من العنف، إلا أنه بات اليوم يضم يقارب ثلاثة أضعاف قدرته نتيجة عوامل عديدة، منها تخلّي أرباب العمل عن العاملات أو الأزمة الاقتصادية أو حتى نسبة العنف التي ارتفعت نتيجة ما سبق. وبالتالي، تحوّل مركز الإيواء إلى مكان مزدحم جداً، يكون البقاء فيه للأقوى، وفيه ممنوع الاتصال بالخارج إطلاقاً، إلا بالأهل والأصدقاء 3 مرات أسبوعياً، حيث تصادر الأجهزة الخلوية تبعاً لإجراءات الحماية. إلا أنّ هذه الإجراءات حوّلت المكان إلى سجن فعلي.

اعتصام السفارة الأثيوبية
وليس بعيداً عن أحوال السفارة الفيليبينية، تشهد السفارة الإثيوبية في الحازمية اعتصاماً مستمراً لما بين 4 و7 شابات أثيوبيات، تحتجّن على سوء معاملة السفارة للجالية في لبنان، وسوء إدارتها لكل ما يخصهنّ. فإنّ كان للفيليبينيات سفارة وضعت لهنّ مركزاً للإيواء والحماية (تحوّل لاحقاً إلى سجن مبطّن)، فللأثيوبيات سفارة لا تسأل عنهن ولا تساعدهن ولا تقدّم حتى معلومات أساسية عن الترحيل والسفر. فتقول سلام، إحدى الشابات المعتصمات أمام السفارة لـ"المدن" إنّ "السفارة لا تتدخّل لحماية الشابات إن حصل خلاف بينهنّ وبين رب العمل، لا تتدخّل لتحصيل حقوقهن ورواتبهنّ". أما العاملة الأثيوبية المسكينة التي تتوفى في لبنان، فكلفة نقل جثمانها إلى الوطن "3500 دولار، فنعمل كمجموعات على جمع المال، 1000 ليرة من هنا و5 دولارات من هنا، لتأمين المبلغ اللازم". وفي ظروف كورونا، قصة السفارة، حسب ما تقول سلام، تتفاقم: "تدّعي السفارة العمل على تسيير رحلات لترحيلهن. لكن دخلت الواسطة فيها وكذلك محاولة سمسرة المال". فقبل أيام أقلّت طائرة تابعة للخطوط الأثيوبية "13 عاملة فقط، هنّ من تمكّن من تسديد مبلغ 1100 دولار لتذكرة السفر، ولو أنّ السفارة كانت قد قالت لنا إنّ سعر التذكرة هو 550 دولار فقط". الاحتجاج على السفارة الإثيوبية في زمن كورونا، نقطة في بحر الملاحظات التي تعدّدها سلام وغيرها من الأثيوبيات في لبنان.

يضاف إلى قضية "إكس" واعتصام السفارة الأثيوبية، قضية موظفي "رامكو"، التي قالت وزارة العمل إنها فتحت تحقيقاً في ما يحصل فيها من تجاوزات، بدءاً من عدم تسديد رواتب العمال المساكين، وفقاً للعقود، وصولاً إلى محاولة قتل أحد العمال فيها على يد مشرفين ورجال الأمن في الشركة. ومن المفترض أن يكون للهيئة الوطنية لحقوق الإنسان في الساعات المقبلة لقاء مع إدارة "رامكو" وآخر مع العمال الأجانب فيها، من أجل توثيق كل ما جرى ويجري فيها من مخالفات، أهمها تعذيب العامل البنغلادشي عناية الله.

في لبنان، تقريباً تشكّل حالات الانتحار التي يقدم عليها العمال والعاملات الأجنبيات 44% من إجمالي حالات الانتحار العام في البلاد. أما أرقام "هيومن رايتس ووتش" فقد خلصت في تقرير عام 2008 إلى أنّ "معدل وفاة العاملات لأسباب غير طبيعية في لبنان يبلغ حالة واحدة في الأسبوع، ومن أسباب الوفاة الانتحار والسقوط من المباني العالية". هذا في ميل، وقيمة الرواتب التي بات هؤلاء يقبضونها بالليرة اللبنانية في ميل آخر. من كان يتقاضى 7500 ليرة (5 دولارات) في الساعة، بات يقبض اليوم 1.85 دولاراً. هذا عدا العنف والعنصرية وسوء المعاملة وفائض ساعات العمل والإجازات غير المدفوعة. كل هذا، وترى السيدة نوار المولوي، عقيلة رئيس الحكومة، أنه يجب الاستغناء عن العمال الأجانب في لبنان والتخلّص من ذهاب أموال اللبنانيين إلى الخارج. تريد أن تذهب الأموال لأهل البلد من خلال ملئهم هذه الوظائف. إن حصل ذلك، في ظروفه المالية والاجتماعية المهينة التي لا نعرف كيف يتحمّلها العمال الأجانب، كيف قد يتم صرف مخزون العنف والعنصرية؟ على من وبأي أسلوب؟ بانتظار المزيد من إبداعات مدام رئيس الحكومة.