سجين في رومية: الطائفية والمجرمون يديرون مجتمع السجن

نبيلة غصين
الأربعاء   2020/02/19
الأخبار المتداولة عن سجن رومية كفيلة ببث الرعب في نفوس الموقوفين للمرة الأولى (Getty)
بعد خروجه من السجن، اختار محمد (31 عاما) أن يمضي أيام حياته في قريته النائية. فبيروت بوتيرتها السريعة ومتطلباتها الاقتصادية المرهقة، صارت عبئاً ثقيلاً عليه. كان قد أمضى سنواتٍ عشر (2009 - 2019) متنقلاً من نظارةٍ إلى نظارة ومن سجنٍ إلى آخر. وما أن كان يخرج من سجنٍ بموجب "إخلاء سبيل" حتى يعود إليه بتهمة تخلفه عن حضور جلسات المحاكمة. مسيرة الطويلة في السجون بدأها بعد إقدامه على السرقة، وأنهاها مدمناً على المخدرات داخل جدران السجن.

مجتمع السجن
في الحادية والعشرين من عمره، نفذ محمد في العام 2009، عملية سطو على محطة بنزين، مع مجموعة من أصدقائه في ضاحية بيروت الجنوبية. بعد أقل من شهرين على العملية، ألقي القبض عليه مع المجموعة. عناصر من حزب الله تتعاون مع القوى الأمنية، نصبت لهم كميناً في الضاحية الجنوبية. نُقلوا إلى خيمة لحزب الله في الجاموس، قبل إحالتهم إلى مركز تحقيق رسمي.

سنوات عشر تناثرت من عمرمحمد، فلم يدفع فيها ثمن خطأه فحسب، بل وقع أيضاً ضحية سلسلة من دبيب الفساد في مؤسسات الدولة اللبنانية: فساد القضاء وإدارة السجون، تفشي الرشوة بين بعض عناصر القوى الأمنية وضباطها، ومزاجية وزراء الداخلية المتعاقبين.

فالسجن أشبه بزريبةٍ تحكمها شريعة الغاب، فأتلف من محمد الجسد والروح، وأفقده الأمل في ريعان شبابه. ويوميات السجن التي رواها محمد لـ"المدن" تسلط الضوء على "مجتمعات" السجون في لبنان: نظامها البدائي المروع، تفشي المخدرات فيها، وكيفية إدخالها إليها. السجانون الحقيقيون ووحشيتهم. النظام الاقتصادي الذي  يضبط حياة السجناء. عقوباتهم القضائية وعِقابهم من الجماعة. آليات الدفاع والصمود التي يتبعها السجناء للبقاء على قيد الحياة.

تعذيب ورشوة
ما كان ليُقبض على محمد وزملائه، لو كانوا محسوبين على حزب الله، المسيطر أمنياً واجتماعياً وعسكرياً على الضاحية الجنوبية. وحتى لو قبض الحزب إياه عليهم ما كان ليسلمهم إلى القوى الأمنية، لو كانوا من أنصاره.

بعد نقلهم إلى مركز التحقيق، وعلى الرغم من اعترافهم بالجريمة التي ارتكبوها، تعرضوا لأشكال التعذيب والإهانات على أنواعها: جلسة "الفروج"، الضرب والجلد... وعاش  محمد وسواه من الموقوفين عمليات ابتزاز ذويهم وأهلهم من عناصر القوى الأمنية، للحصول منهم على رشىً، لقاء تخفيف تعنيف أبنائهم وتعذيبهم. ووصلت الرشى إلى المحققين أيضاً، لقاء حذفهم معلومات جرمية من ملف القضية الذي يستند عليه قاضي التحقيق.

ثلاثة أسابيع قضاها محمد في مركز التحقيق. نُقل بعدها إلى نظارة قصر العدل في بعبدا. النظارة في الطبقة السفلية من القصر. لا تصلها الشمس، وغالباً ما تكون مكتظة بالموقوفين. وهناك يبدأ مسلسل الترهيب النفسي الذي يتبعه موقوفون آخرون وسجناء سابقون.

الرعب في رومية
فالأخبارالمتداولة عن سجن رومية كفيلة ببث الرعب في نفوس الموقوفين للمرة الأولى: من حالات الاغتصاب، إلى التنمر وبيع الحشيش والمخدرات.. وصولاً إلى القتل. نصائح كثيرة تلقاها محمد إلى جانب الابتزازات، لكي لا يصل إلى رومية. لكن ذلك لم ينفعه في شيء. فوصل إلى ذلك السجن الشهير في رعبه، بعدما تزود بمعلومات تساعده على تحسين ظروف عيشه في ذلك السجن: "إذا بتسكت مرة واحدة بتصير ملطشة. قد ما تاكل أتل (تعذيب) لازم تدافع عن حالك". "لازم تزبط حبستك". علقت هذه الكلمات في ذهن محمد وأصدقائه، وأدركوا أن الحياة في رومية حلبة مواجهة عنيفة. وفي الطريق إليها في "السوق" (الآلية التي ينقل فيها السجناء)، أقسم محمد ورفاقه على التكاتف في وجه كل من يحاول الاعتداء عليهم من السجناء.

طائفية في السجن
رومية من أكبر السجون المركزية في لبنان. يتألف من أربعة مباني كبيرة: مبنى المحكومين، مبنى دال، مبنى باء، ومبنى الأحداث، إضافة إلى مبنى واو، وهو غرف صغيرة ضيقة مخصصة للسجناء المنفردين، ويعتبر "اللولب" أو الممر الكبير، وحلقة الوصل بين المباني كافة.

تقسّم المباني والغرف والنظارات على الطوائف: نظارة مخصصة للموقوفين من الطائفة الدرزية. أخرى للشيعة. ثالثة للسنة. رابعة مخصصة للموقوفين المسيحيين. وخامسة للعملاء. وسادسة لسجناء السلك العسكري، وغيرها. والمتعارف عليه أن المبنى باء معظم سجنائه من السنّة. والمبنى دال للشيعة.

سلطة الشاويش
بعد الوصول إلى سجن رومية يُساق الموقوفون إلى مبنى المحكومين، فيسلمون "الأمانات" التي تذكر بحياة "الحرية": الهواتف، الأموال، بطاقات التعريف، المفاتيح.. ثم ينقلون إلى نظارة المبنى (دال) المخصصة لاستقبال الموقوفين الجدد.

على عتبة تلك النظارة تنتقل السلطة من "الدولة اللبنانية" إلى سلطة السجناء. فيتسلم الشاويش إدارة شؤون السجن والسجناء، بإشرافٍ شبه شكلي من مراقب السجن العام. عند الدخول يقوم عدد من السجناء بقص شعر الموقوفين الوافدين ولحاهم. يتولى آخرون تفتيش الملابس الشخصية. لهؤلاء السجناء "القادة" مواصفات جسدية وسلوكية خاصة: يتمتعون ببنية جسدية قوية، وغالباً ما تزين الأوشام عضلات زنودهم، وهم أشخاص متسلطون ومتنمرون.

ثم يُنقل الموقوفون إلى نظارة من قسمين: قسم للأجانب وآخر للبنانيين به غرفة صغيرة للشاويش. وهو بمثابة الضابط الحاكم بأمره. أمبراطور النظارة وظل الدولة فيها. وللشاويش مساعدين يقوم بتعيينهم بنفسه: شاويش الحمام، شاويش الليل، شاويش الباب، شاويش القروانة (الطعام)، وشاويش "الوصولي" أي الحصول على المشتريات .

يعين المراقب العام شاويش النظارة. ومن يرغب في خلافة  الشاويش يتقرب من المراقب العام، ويطلب من عائلته خارج السجن إرسال الهدايا والأموال للمراقب العام لاختياره شاويشاً. ومنصب الشاويش يدر المال على صاحبه، الذي غالباً ما يكون من المحكومين لفترات طويلة، كالمؤبد لإرتكابهم جرائم كبيرة منها القتل. وما يحصله من أتاوات ورشىً، يعيل الشاويش به عائلته خارج السجن.

لكل شيء ثمنه
في نظارة المبنى دال وضع محمد ورفاقه في "الميدان": مصطلح يطلق على المساحة الوسطى من القاووش المخصص للبنانيين. بعد أيام يروح الموقوف يسعى للانتقال من الميدان إلى الحائط، لما في ذلك من راحة جسدية. ثم يصبح شغل الموقوفين الشاغل تأقلمهم مع ظرف حياتهم الجديدة. يحاولون "الاستحباس": نسيان كل ما يمت بصلة إلى العالم الخارجي، والتركيز على تحسين شروط العيش في السجن.

وإذا كان الميدان درجة متدنية في تصنيفات الحيز المكاني للقاووش، فإن المساحة الملاصقة للحائط هي الأفضل. ينام من في الميدان على حرامات رقيقة جداً بوضعية "كعب وراس"، وأحياناً في وضعية الجلوس. وهذا على عكس من ينتقل إلى محاذاة الحائط، فيسمح له الشاويش بامتلاك "يطأ": مجموعة من الحرامات تستخدم كأريكة في النهار ووسادة للنوم في الليل. ويخضع توزيع الأماكن لسلطة الشاويش، الذي يسعى الجميع لإرضائه لتحسين ظروف معيشتهم والانتقال إلى الحائط وإمتلاك "يطأ".

يتقرب الموقوف الجديد من مساعد الشاويش، لينتقل إلى الحائط، مقابل ثلاثة "كروزات" من التبغ، وهو العملة المتداولة في السجن، الذي يمنع فيه استعمال النقود. وطلب محمد وأصدقاؤه من ذويهم تزويدهم بالتبغ من دكان السجن الذي يسمى "الحانوتي"، ودفعوا من التبغ ثمن النوم بمحاذاة الحائط. ولإمتلاك "اليطأ" دفع كل منهم "كروز" دخان. وللحصول على مياه ساخنة ثمن يدفع لشاويش الحمام، وكذلك لغسل الملابس الذي يدفع لشاويش الغسالة. ولكل شاويش طريقته في إبتزاز السجناء والضباط والمراقبين العامين بهدف تحصيل الربح.

وهكذا يكون السجن محكوماً بسلطة مجموعة من "الشاويشية" المجرمين، الذين أُبرمت عليهم الأحكام. فلا يهابون سلطة ولا يخافون من سجين. وكيف يكون لسجين يتاجر بالمخدرات أن يفتش السجناء لمنعهم من تهريب المخدرات وإدخالها إلى القاووش؟
(يتبع)