مرثيّة لزمن الشياح الزراعي.. ولتروتسكيات اغتسلن ببركة حوش المصبغة

محمد أبي سمرا
الأربعاء   2020/10/28
منطقة الشياح، طريق صيدا القديمة، عقب انتهاء الحرب (Getty)
ولد المدرّس أحمد كزما سنة 1935، إبنًا لعائلة شيعيّة من عائلات السكان "الأصليين" في الشياح عندما كانت بعدُ قرية ساحلية. وفي العام 2005 روى سيرته العائلية في إطار شهادة عن المجتمع الشيعي الريفي أو الزراعي، وزمنه البلدي البطيء، الاكتفائي الأليف، في قرى ساحل المتن الجنوبي، قبل تسارع ذلك الزمن إلى الاندثار أمام هجوم "عمران الهجرات الجماهيري" الفوضوي على تلك القرى، فصارت أحياء الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت.

الخضر ومواسمها
كان أهالي قرى ساحل المتن الجنوبي، من أوائل المزارعين الذين استخدموا الخيم في أعمالهم الزراعية مطلع أربعينات القرن العشرين. فتحت أغطية نايلون كانوا يرفعونها على أوتاد وسقالات خشبية في أملاكهم الزراعية القريبة من بيوتهم، كانوا يمهِّدون قطعًا من أراضيهم يسمونها مساكبَ، ويزرعون فيها شتولَ الخضر المثمرة في موسمين اثنين أو ثلاثة في السنة الواحدة: البندورة، الباذنجان، اللوبياء، والفليفلة. أما المساكب المكشوفة للهواء الطلق، فكانوا يزرعون فيها الملفوف والقرنبيط والكوسى واليقطين والخيار والمقتي والملوخية والسبانخ والسلق والفجل والبقدونس والنعناع والكزبرة والخس والبطاطا والبصل.

وحتى نهاية خمسينات القرن العشرين، ظل لمواسم زراعات الخضر هذه حضورها بعدُ حول بيوت عائلات السكان "الأصليين" في الشياح، على الرغم من تراجعها، تُباع منتوجاتها في أسواق بيروت. وكان مزارعوها يستهلكون منها في بيوتهم ما يحتاجونه طازجا في مواسمه، ويحتفظون من ما يُقدّدُ، أو قابل للحفظ من موسم إلى آخر من خضر وحبوب، مؤونة يخزّنونها لغذائهم البيتي العائلي، بعد انقضاء مواسمها. أما مواسم الفواكه من الأشجار المثمرة: الحمضيات، الأكي دنيا، المشمش، الخوخ، الموز، والأفوكا، المانغا، والغوافة، فكانت كلها للاستهلاك البيتي العائلي، فلا يفيض مما يقطعونه عن أشجارها القليلة في حدائق قرب البيوت، ما يتوافر لبيعه في السوق.

فالتربة الزراعية للسهل الساحلي، الحمراء غير الصلبة والأقرب إلى الرمل في رخاوتها، أفضل بكثير لزراعة الخضر من التربة البيضاء الحوّارة الصلبة. وما بين العام 1945 والعام 1950 كان أهل الراوي يبيعون كيلوغرام الباذنجان أو البندورة من مواسم القطفة الأولى بـ4 ليرات لبنانية. لكن عندما يهجم موسم هذين النوعين من الخضر ويصير في أوجه، فكان سعر الكيلوغرام منهما يهبط إلى 15 قرشاً فقط.

في فصل الخريف كانوا يزرعون الملفوف والقرنبيط في مساكب الهواء الطلق العارية من الخيم. فماء المطر حياةٌ لهاتين النبتتين الشتويتين وسواهما من الخس والهندباء والسبانخ والفجل والبصل والبقدونس والكزبرة. وبعد ظهور جبوب الملفوف والقرنبيط ونموها وتكوكب أوراقها حول جذوعها الصلبة وارتوائها بأمطار الخريف، كانوا يزرعون البطاطا إلى جانب حبوب هاتين النبتين. وحين كان يُسمِّخ بذار البطاطا في التربة، وتنبت وترتفع فوق الأرض جذوعُه وأوراقُه الصغيرة الهشة، كانت تحميها جبوب الملفوف والقنبيط من المطر العاصف والصقيع في أشهر كانون وشباط. ففي تلك الأيام من الشتاء، كانت درجة الحرارة تهبط إلى الصفر أحيانًا، فتتكوّن طبقة رقيقة من الجليد على النبات، يسميها المزارعون "الملاّح"، لأنها تشبه الملح. وطبقة "الملاّح" هذه، تجلّد نبتة البطاطا الهشة، فتميتها، إن لم تحمِها من الصقيع والجليد أوراقُ جبوب الملفوف والقنبيط القوية التي تُقطَفُ في آخر شباط وفي آذار، حينما يعتدل الطقس ولا تعود نبتات البطاطا في حاجة إلى حمايتها.

وفي شهر أيار يُقتلع موسم البطاطا، ويُزرع في مكانه موسم صيفيّ من الباذنجان والبندورة وغيرهما من الخضر التي تُغذّى بالسماد الطبيعي أثناء ريها بالماء. وكان السماد خليطًا من روث الأبقار وسلح الدجاج اللذين يجمعهما المزارعون في حفر على جنبات حقولهم أو بساتينهم، مع بقايا من أوراق النباتات المختلفة وجذوعها. فأوراق القنبيط والملفوف التي تُقبلُ الأبقار على التهامها، لا تستهلكها كلها، فيُرمى فائضها في الحفر مع أوراق البندورة واللوبياء وجذوعها وبقايا أوراق الخس. أما أوراق نبتة الباذنجان وجذوعها فتُرمى كلها في الحفر، لأن الأبقار التي يربيها المزارعون كانت تنفر من قسوتها وخشونتها شبه الشوكية. وكانت هذه البقايا المختلطة بالروث والسلح، تُترك في الحفر معرّضةً للهواء طوال الصيف والخريف، قبل طمرها في بدايات الشتاء، فتروح تتخمّرُ برشح ماء المطر الذي يضمّخُ التربة، فيتحول ما تحتويه الحفر المطمورة موادًا عضوية طبيعية، يُكشف  عنها في فصل الربيع، وتستعملُ سمادًا للخضر أثناء ريّها.

مياه النواعير والبرك
كان للري أنواعه وأعماله في تلك الحياة الزراعية: مياه نهر بيروت التي كان يُجر جزء منها إلى بساتين الشياح وحقولها في قناة متصلة بقناطر زبيدة البعيدة شمال بيروت. أما مياه الشرب فكانت تصل إلى البيوت في أنابيب شركة عين الدلبة. وحصة البيت الواحد منها متران اثنان مكعبان في الخريف والشتاء وشهرين من الربيع، ويصيران أربعة أمتار في شهور الصيف "الأربعة". ففي الصيف الذي يطول إلى شطر من بداية الخريف، كانت تشتد حاجة الأهالي إلى المياه لري المزروعات، فيسدون حاجتهم هذه بما جمعوه في برك صغيرة أو خزانات من فائض مياه عين الدلبة البيتية، أو من مياه الآبار الجوفية العميقة الغور.

ففي الشياح كانت هناك بعض الآبار الجوفية يعود حفرها وتشييد جدرانها العميقة الغور تحت الأرض، إلى أزمنة قديمة. وهي تسمى نواعير. كانت مياهها الجوفية تُنتَشَلُ بقوة أبقار تُربط أعناقها بحبال إلى إطارات خشبية دائرية كبيرة مركوزة واقفة ومتحركة على فوهات النواعير. وبأطراف الإطارات تُعلّق أوان معدنية كثيرة تشبه الطناجر، تتدلى بحبال إلى جوف النواعير. والأواني المتحركة دائريًا تنتشلُ الماء بقوة الأبقار في دورانها حول الفوهات محركةً الإطارات الخشبية والأواني. وكانت هذه التقنية القديمة تقوم بوظيفة المحرّك الآلي الذي يولّد الطاقة اليوم. ومشهد دوران البقرة والدولاب فوق فوهة الناعورة في الحقل، هو نفسه المشهد الذي كرّرته الأفلام المصرية في غيطان أو حقول الصعيد.

وكانت أرض محلة الطيونة تنز ماءً على عمق مترين أو ثلاثة فقط، فيقيم بعض مزارعي المحلة حفرًا بهذا العمق في أرضهم، ويجعلونها بركًا صغيرة يجمعون فيها ما يرشح وينزُّ من جنباتها وقاعها من ماء وفير، ثم يروون به بساتينهم ومزروعات حقولهم في الصيف.

الطنابر والنساء
وكانت الطنابر - أي العربات الخشبية التي تجرها الدواب من بغال أو حمير - تنقل الخضر من حقول الشياح إلى سوقها في بيروت. وفي المواسم كان أصحاب الطنابر يمرون قرب الحقول، فيجمعون في طنابرهم قطاف خضر المزارعين الجاهزة للنقل والبيع في "الحسبة"، أي سوق بيع الخضر بالجملة في وسط المدينة.

وكانت الطنابر هذه تقوم برحلات عدة في اليوم الواحد إلى السوق، فتُفرِغ فيه حمولة الرحلة الأولى بعد ساعة أو اثنتين من منتصف الليل، لتقوم برحلة ثانية قبيل الفجر بقليل. وفي الساعة الخامسة فجرًا كان يبدأ بيع الخضر في السوق، بعدما يكون قد وصل إليها سيرًا على أقدامهم بعضُ المزارعين من أصحاب الأحمال التي نقلتها الطنابر ليلًا. فيبيع المزارعون خضرهم، ثم يعودون "في حموة الشمس"، أي في وقت متأخر من الصباح، إلى بيوتهم وحقولهم وأبقارهم وحياتهم الزراعية والعائلية في الضيعة.

وكان أصحاب الطنابر يحصلون على أجرة مالية أو عينية من خضر المزارعين. والطنبرجيون كانوا من أوائل الوافدين من قرى الجنوب للعمل والكسب، فنزل بعضهم في الشياح واقتنى طنبرًا ودابّة لنقل الخضر من حقولها إلى سوق بيروت. لكن الخس لم يكن يُنقل في الطنابر، خوفًا عليه من التكسّر والتلف، فيتدنى سعره في السوق. لذا كانت بعض من نسوة أصحاب الطنابر أو غيرهن من الجنوبيات تعملن في نقلها، خصوصًا في أعياد الميلاد ورأس السنة التي يزداد فيها الطلب على الخس والبقدونس والنعنع ويرتفع سعرها. وكانت المرأة من هؤلاء تحمل على رأسها "فرشًا" خشبياً توضّب فيه بعناية دزينة من الخس ومثلها من البقدونس، وتسير به إلى السوق فجراً، فتتقاضى لقاء نقلها "الفرش" الواحد نصف ليرة لبنانية.

من الطنابر إلى العقارات
من أصحاب الطنابر رجلٌ جنوبيّ وابنه الفتى، كانا يأتيان إلى الشياح من حيث تنزل عائلتهما وتقيم في طرف محلة خندق الغميق لجهة السوديكو، فيحمّلان طنبرهم خضرًا ينقلونها إلى السوق. وبعد مدة تخلى الرجل وابنه عن العمل في النقل، فأخذا يشتريان الخضر من المزارعين ويدوران بها على الطنبر الذي يجره بغل، ويبيعانها بالمفرق في أحياء المدينة.

وفي مطلع الخمسينات من القرن الماضي، اشترى ابن الرجل، بما حصّله من عمله هذا، قطعة أرض صغيرة في حي المصبغة بالشياح. ثم تشارك مع قريب له على تشييد بناية بطبقتين على مساحة من الأرض، ثم شيدوا ما يشبه حوشًا من الغرف الصغيرة حول بركة قديمة كانت في الحقل، وراحوا يؤجران غرف الحوش لرجال أو عائلات قدمت من الجنوب أو بعلبك للعمل والكسب في المدينة، وكان بعض البعلبكيين منهم يعملون سيّاس خيل في اسطبلات الغبيري والطيونة والشياح، القريبة من ميدان سباق الخيول على طرف بيروت الجنوبي.

كان الحوش هذا ونزلاؤه نموذجًا جديدًا للعمران والإقامة ونسيج الاجتماع في حي المصبغة الذي عمل معظم نزلائه البعلبكيين سيّاس خيل، وعمل بعض نزلائه الجنوبيين بائعي خضر وفواكه على عربات يدفعونها أمامهم في الأحياء. وتزامنت كثرة بائعي الخضر على العربات - حتى في الشياح نفسها وغيرها من أحياء ما سيصير الضاحية الجنوبية - مع هبوب العاصفة العقارية والأبنية الجاهزة على قرى ساحل المتن الجنوبي، فاقتلعت بساتينها ومساكبها وحقول الخضر فيها. واقتلعت أخيرًا معظم بيوتها العائلية القديمة، أو حاصرتها ببنايات تجار البناء الجاهز، المؤلفة من طبقات عدة شُيّدت متقاربة وشبه عشوائية على جنبات الطرق الزراعية التي كانت تعبرها الطنابر بين الحقول. وتحولت تلك الطرق الملتوية التي ارتفعت البنايات على جنباتها في حي المصبغة، أزقة داخلية مقبضة، معبدة بالإسفلت، مكتظة بسكان البنايات، وتتصل بشارعي أسعد الأسعد وعبد الكريم الخليل، الرئيسين في الشياح.

اكتظاظ إسمنت البنايات والبشر في قلب حي المصبغة، حوّل ما كان أحواشًا أحياءَ سكنية مكتظة ومنكفئة للمهاجرين من البعلبكيين والجنوبيين. وبدورها انكفأت بيوت السكان "الأصليين" على أهلها وعائلاتها التي أخذ ابناؤها يشعرون بأن من سموهم "القبلاوية"، أي أهل الجنوب الوافدين، حاصروا حياتهم ونمط عيشهم المحلي الأليف والمطمئن في قريتهم الريفية.

حوش تروتسكيات الحرب
في بدايات حرب السنتين الأهلية (1975 - 1976) في الشياح، كانت لا تزال قائمة غرفُ بقايا الحوش الداخلي الذي أنشأه في حي المصبغة ابن الطنبرجي العتيق، الذي تحول تاجر خضر وفاكهة بالجملة في سوق بيروت، خلف مبنى سينما ريفولي. أما الابن الشاب لصاحب الحوش وتاجر الخضر، فكان طالبًا ثانويًا تروتسكي الهوى والمذهب في بدايات الحرب. وأخذ يدعو مجموعة من أمثاله الشبان والصبايا التروتسكيين والتروتسكيات للقاءات واجتماعات نقاش ثوري وتنظيمي في غرف حوش أهله المهملة الفارغة من السكان، تمهيدًا لمشاركتهم ومشاركتهن في حرب المتاريس بين الشياح وعين الرمانة.

وسرعان ما تحولت غرف الحوش مأوى شبه دائم "للمناضلين والمناضلات" التروتسكيين والتروتسكيات: ينام بعضهم وبعضهن فيها، أثناء مناوبتهم ومناوبتهن الليلية المسلحة في المتراس المخصص لهم ولهن في الطيونة. وبعد نوم متأخر لرفيقات ورفاق الهوى التروتسكي الحربي المناضل، خرجت قبيل ظهيرة نهار بعضُ الرفيقات من الغرف في ثياب النوم الداخلية الحاسرة عن أجسادهن الفتية، وتوجهن للاغتسال في بركة الحوش القديمة... وسرعان ما اكتظت شرفات البنايات حول الحوش بسكانها من الرجال والشبان والفتيان والنساء اللاغطين، قبل أن يحدث هرج ومرج ويعلو الصراخ في الحي.