ديما عبد الصمد.. موت آخر ضحايا انفجار 4 آب

نادر فوز
الثلاثاء   2020/10/27
84 يوماً على التفجير ولا يزال 9 أشخاص في عداد المفقودين (Getty)
عاد مشهد الانفجار ليتكوّن في بيروت. صوت انفجار أول، دخان رمادي، انفجار ثانٍ مصحوب بهزة أرضية وعصف أخذ بدربه كل شيء من بشر وحجر. حتى الهواء تبخّر للحظات. تكسّرت السماء فوق المدينة، وعلا فيها سحاب رهيب باختلاط ألوانه. برتقالي وبنيّ وأحمر يختلط بالأزرق والأسود. ومع صراخ الناس، الخارج من كل بيت وسيارة ومحل وحانة ومكتب، ظهرت بيروت في لوحة "مونكية" (نسبة للرسام النرويجي إدفارت مونك: الصرخة). ومذّاك الوقت، بيروت على حالها من القلق والخوف والموت.‏

هكذا، عادت ديما عبد الصمد قيس، لتحيي هذا المشهد في ذاكرة من عرفوها ومن لم يعرفوها. ديما، ضحية جديدة لانفجار 4 آب في المرفأ، أعلنت قبل ساعات استسلامها ورحيلها عن الدنيا.




صراع مع الموت
صمدت ديما في الغيبوبة 83 يوماً، قبل أن تنضمّ إلى لائحة مليئة بأسماء 203 من ضحايا تفجير المرفأ. خسرت معركة الصمود الطويل الذي بدأ لحظة التفجير. كانت إلى جانب والدها خالد الراقد على سرير في مستشفى الروم في الأشرفية. وقع الانفجار الأول، فوقفت إلى النافذة تلتقط صوراً للحدث. وقع الانفجار المدمّر، فاختفت قرابة الـ12 ساعة، قبل يتم العثور عليها في مستشفى جبل لبنان وهي في غيبوبة تتلقّى العلاج بعد أن خضعت لعملية جراحية. المفارقة، أنّ والدها المريض الذي يتلقّى العلاج منذ 9 أشهر لم يصب بالتفجير. كأنها تلقّفت الموت الآتي إليه من النافذة، فصارعته مرة أولى ومنعته من الدخول إلى غرفة أبيها. ثم صارعته مرة ثانية في الغيبوبة، إلى أنّ أنهكها التعب.

"عم احلم بوطن"
"بس اتخيل شو عم بيحس!!! ختيار ومريض، وبنتو للي ماتت"، كتبت إحدى الصديقات من قريبات ديما في حوار إلكتروني. العائلة مدمرّة بعد أكثر من ثمانين يوماً من المعاناة والرجاء والأمل. زوجها خطّه مقفل، ابنها في طريقه إلى لبنان، وكذلك ابنتها. ووالدها لن يتكلّم، وكذلك أمها. وكل الكلام بات على شفاه قريب من هنا أو قريبة من هناك. ديما، 52 عاماً، أم لولدين، خريجة كلية إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية في بيروت، تعيش حياتها بشكل طبيعي. "رح خبّرك شوي عن ديما"، تقول الصديقة على الفضاء الإلكتروني. "بنت طيّبة كتير ومهضومة كتير وعايشة حياة فيها رفاهية. بأيام الثورة الأولى، وقت مسيرة الشموع ‏للنساء، تفاجأت فيها بيناتن وحاملة العلم اللبناني. استغربت وصرت إضحك. قلتلها الثورة بخير اذا ‏انت عم تنزلي تتظاهري، قالتلي ما بعرف شو صاير فيي. عم احلم بوطن".

"أولادنا والعزاء"
حلمت ديما، طوال العام الماضي، بوطن. لذلك، ربما، نامت طويلاً على سرير المشفى. استرسلت في غيبوبتها، في حين أنّ الصلوات والدعاء يتصاعد من حولها لتفيق. تكرّر أحلامها وتكتب فيها فصولاً إضافية. تحلم، تكتب، فتمحي ثم تعيد الصياغة. قالت للصديقة نفسها، خلال التظاهرات، إنّ "العلم اللبناني عم ضلّ حاملتو معي (رابطتو ‏عالجزدان)... بدنا وطن ولادنا يبقوا حدنا، مش بس يجوا وقت الدفن بعزانا". تضيف الصديقة، إنه "للأسف، ولادها الاتنين المسافرين رح يجوا اليوم بعزاها". لا حاجة لقول أكثر من ذلك. "قالت تحديداً، ما بدنا ولادنا يجوا يدفنونا ويرجعوا يفلوا"، لكن ذلك حصل وسيحصل حرفياً، رغماً عن كل الأحلام والطموحات والإرادات. كان ذلك اللقاء، وتلك المحادثة، يوم 8 تشرين الثاني، خلال مسيرة "نساء وشموع"..

ديما عبد الصمد، آخر ضحايا تفجير مرفأ بيروت. نأمل أن تكون الأخيرة. إلا أنه حسب أرقام وزارة الصحة غير الدقيقة، في المستشفيات "4 أو 5 حالات إضافية تعيش في الغيبوبة جراء انفجار المرفأ". حتى أرشفة الضحايا، مهمة صعبة على الدولة اللبنانية والمسؤولين فيها. واليوم، بعد مرور 84 يوماً على التفجير لا يزال 9 أشخاص في عداد المفقودين. هو جرح مفتوح، وسيبقى مفتوحاً إلى حين انكشاف كامل الحقيقة ومحاسبة الفاعلين، المباشرين وغير المباشرين. وتقول الحقيقة إنّه بعد قرابة 3 أشهر على الانفجار، لا يزال الضحايا يتساقطون. لا يزال التحقيق غير منجز، ولا الحساب، ولا العدالة. لا تزال مئات العائلات بلا منازل. لا يزال آلاف الموظفين بلا مكاتب. لا تزال السلطة على حالها من الفساد والمحاصصة والقمع والإفلاس. لا تزال المدينة، ومن فيها، عالقون في لوحة إدفارد مونك.