حادثة "أليفة" في صيدا تكشف عالم الجامعة اللبنانية القبَليّ

محمد أبي سمرا
الخميس   2020/01/30
الجامعة اللبنانية إحدى المواطن الكبرى لغزوات أجهزة الحزبيات (المدن)

قد يكون وجه الجامعة اللبنانية الأبرز، دورها ووظيفتها في المجالين الأكاديمي والثقافي، هو انحطاطها وتحوّلها منذ زمن بعيد، كسواها من المؤسسات الحكومية، مسرحاً للصراعات والمنازعات والمناكفات وتقاسم النفوذ والمغانم وتوزيعها بين أجهزة الغرضيات الحزبية. فهذه الجامعة المترهلة والغنية بدبيب الفوضى الضاربة في إدارتها وهيئات التدريس فيها، وتوزيع حصصهم بين الأساتذة المتفرغين والمتعاقدين، وفي جسمها الطلابي الكبير في فروعها الكثيرة الموزعة على المحافظات والمدن، ليست سوى مرآة لأشكال وألوان لا تحصى من تفشي الاهتراء وسريانه في الجسمين السياسي والاجتماعي ومؤسساتهما كافة.

عنف وشتائم
وشاءت المصادفات أن تبلغنا واحدة من الحوادث التي وقعت في فرع كلية الآداب بصيدا في 18 تشرين الثاني 2019. أي أثناء يوميات الحركة الاحتجاجية اللبنانية الواسعة، والبادئة قبل شهر من الحادثة التي قامت الاحتجاجات على أسباب تفشيها وأمثالها في الحياة والعلاقات السياسية والإدارية في لبنان.

وتلخيص الحادثة أن الاستاذ الجامعي أنور الموسى - المتفرّغ للتدريس في فرع الكلية الصيداوية (الفرع الخامس) منذ سنوات عشر - كان يلقي محاضرته على طلابه في اللغة العربية وآدابها، عندما أقدمت رئيسة القسم في الفرع، تغريد الطويل، على الدخول إلى القاعة، قائلة له آمرةً أن يخرج، مدعية أن حصة التدريس وقاعتها ليست من برنامجه التعليمي المقرر، على ما روى لـ "المدن" طلاب كانوا حاضرين في القاعة، وشهدوا.

ولأن للحادثة تتمة مشهودة في الكلية - وإلا لما كانت تستأهل التوقف عندها ولا تقصيها ولا روايتها - تناقلت وقائعها مواقع الكترونية، وشاعت بين الطلاب والأساتذة، ووصلت أخبارها إلى ساحات الاعتصام في صيدا.

لم يخرج الموسى من القاعة، على الرغم من أن الطويل رفعت صوتها مهددة متوعدة، قبل مغادرتها غاضبة. وبعد دقائق قليلة، على ما روت طالبة من الحاضرين، دخل القاعة الأستاذ المتقاعد بالساعة مع إدارة الكلية، حامد حامد،  قائلاً للموسى: بدي فجمك، إذا ما بتطلع هلق من القاعة. وتلافياً للأسوأ خرج الموسى من القاعة، متجهاً نحو مكتب إدارة القسم، لكن حامد لحقه، وأمسكه من سترته على الدرج، ودفعه إلى قاعة المكتب، ثم انهال عليه بضربات ولكمات عنيفة مرفقة بسيل من الشتائم.

الشرنقة القبليّة الراسخة
مثل كل حادثة، تبدو هذه الحادثة المشهدية المباشرة غامضة الأسباب وغير مفهومة ولا معقولة، إلا في حال ردها إلى شرنقة من الانتماءات والعلاقات والولاءات والمصالح الصغيرة التي تتأسس عليها وتتراكم جملة من الضغائن والأحقاد المبيتة والمكتومة والمنفجرة بين وقت وآخر. والحق أن أمثال هذه الشرنقة، هي النواة التحتيّة الكامنة في صلب مسرح الحياة والعلاقات اليومية في المؤسسات اللبنانية العامة وكواليسها. ولا يمكن فهم ما يدور على هذا المسرح من حوادث، من دون الكشف الفأريّ عن خيوط تلك الشرانق.

فأن تكون أستاذاً متفرِّغا - أي أعلى كعباً وشأنا ومرتّباً شهرياً ثابتاً وضماناً صحيّاً، من جيش المتعاقدين بالساعة بأجرٍ ضئيل طوال سنين في انتظار نِعَمِ التفرُّغ - يعني أنك اجتزت عقبات كأداء، وصبرت صبر أيوبٍ لاجتيازها، وأصبحت من المحظيين. وهذا ما رسّخه تفريع الجامعة وترهلها، وسيطرة الأجهزة الحزبية والطائفية عليها، أقله منذ ما بعد حرب السنتين (1975-1976).

وغالباً ما يحتاج الأستاذ ليحظى بالتفرّغ وتسقط عليه نِعَمِه، أن يكون منتمياً إلى بطانات تلك الأجهزة، أو من مواليها، وإلا عليه إهراق ماء وجهه على أعتاب متنفذيها، إذا كان مستقلاً طامحاً إلى التفرّغ. والمستقل الذي يصل إلى غايته، تكون أمّه قد أنجبته في ليلة القدر. أما إذا وصل وأقام على استقلاله، بلا استزلام ولا ولاء للغرضيات الحزبية، فغالباً ما يُهمَّش ويُفرد إفراد البعير المعبد في الحياة المهنية وعلاقاتها وعالمها القبّليّ الذي لا يزال المثال العميق الراسخ في ديارنا.

والجامعة اللبنانية اليوم ومنذ سنين كثيرة، إحدى المواطن الكبرى لغزوات أجهزة الحزبيات والغرضيات القبليّة. ويدرّس فيها جيش من المتعاقدين بالساعة، والمتطاحنين على تقاسم ساعات ما يسمى نصاب الدوام الأسبوعي، والصابرين علَّ نعمة التفرغ تسقط على هذا أو ذاك منهم، قبل أن يشيخ وينهي حياته المهنية بلا مرتب تقاعدي. والتفرغ لا يجيزه إلا مجلس الوزراء مجتمعاً.

وما أدراك ما هي المجالس الوزارية المجتمعة بمتاهاتها وقراراتها الطيّبة الذكر، حسب "نظام الطائف" الميمون، الذي أناط قرارات الحكم والإدارة في الدولة اللبنانية بـ"تراضي" وزراء القبائل في مجالس مناكفاتهم وأفخاخهم ومؤامراتهم ومهاتراتهم، وثلثهم المعطّل وثنائياتهم وأرباعهم في حكوماتٍ تكاثر وزراؤها كالفطر المسموم.

وهذا يعني أنه يستحيل على متعاقد أن يتفرغ إلا اذا كان من محاسيب الأجهزة الحزبية القبليّة التي  تعيّن الوزراء وتديرهم "حفاظاً على التوازن الوطني"، وإلا.. لا جمهورية موز لبنانية، ونكون أهدرنا تراثنا وقيمنا الوطنية التليدة كلها.

أبطال الحادثة
هذا هو عالم الجامعة اللبنانية الذي تتفشى علاقاته في إدارتها، وبين طلابها أيضاً. وهذا هو عالم  تلك الحادثة الصغيرة، الأليفة العابرة، التي وقعت في نهار عابر من يوميات الفرع الخامس في كلية الآداب بصيدا، فيما كانت الحركة الاحتجاجية على مثل هذه العوالم وحوادثها قائمة في المدينة وسواها من المدن والمناطق اللبنانية.

وكان علينا أن نتقصى من مصادر كثيرة انتماءات "أبطال" الحادثة لنكتشف خلفياتها التفصيلية، من بعض الطلاب والأساتذة الذين رفضوا جميعا ذكر أسمائهم، لئلا يتورطون في ما لا تحمد عاقبته. أما الأستاذ أنور الموسى فرفض التحدث قطعاً عن الحادثة، تاركاً للقضاء أن يتخذ مجراه فيها.

أفاد التقصي الذي أجرته "المدن" أن أنور الموسى معروف باستقلاله وعدم انتمائه إلى غرضيات حزبية، تتصدرها "حركة أمل" في كل من الجسم التعليمي والإداري في فرع كلية الآداب بصيدا. أما الجسم الطلابي في الكلية نفسها، فيتصدره "حزب الله".

مديرة قسم اللغة العربية في الفرع تغريد الطويل، والأستاذ المتعاقد حامد حامد، من بطانة "أمل"، وكذلك مدير الفرع ناصيف نعمة. وروى طالب قديم تخرج من الكلية أن الموسى حاول قبل سنوات الترشح لمنصب مدير القسم، لكن  بطانة "أمل" كانت له بالمرصاد، فتكاتف نافذوها في الكلية ضده، وأوصلوا شيخاً معمماً يحمل شهادة دكتوراه في اللغة العربية وآدابها إلى المنصب الإداري، قبل أن يوصلوا إليه السيدة الطويل. وجمعت السيدة الدكتورة حولها الأساتذة المحازبين مثلها، ومنهم المتعاقد حامد حامد الذي راح يتباهى على مسامع بعض الطلاب أنه فعل ما فعله بالموسى لأن "رأسه يابس".

وروى طلاب في الكلية شاركوا في اعتصامات الانتفاضة بصيدا، أن مجموعة من الطلاب نفذت اعتصاماً في الكلية احتجاجاً على ما تعرّض له الموسى. فما كان من الطويل إلا أن استعانت بزوجها الضابط في الجيش اللبناني الذي أرسل جندياً يعمل سائق سيارته العسكرية إلى حيث يعتصم الطلاب المحتجون، فهدّدهم وأرعبهم ومزق اللافتات التي كانوا يحملونها استنكاراً للحادثة.

واللافت أن مدير الكلية تضامن مع المعتدي، وتستّر على الحادثة، فيما استمر حامد حامد في تباهيه على مسامع الطلاب قائلا إنه سوف يكسر رأس زميله الموسى مرة ثانية، إذا دعته الحاجة إلى ذلك.

ساكن الكتاب والقصر
الطالب القديم في كلية آداب صيدا والمتخرّج منها، روى أن والده كان طالباً في كلية الحقوق - الجامعة اللبنانية في الصنائع ببيروت، عندما كانت تسمى في أواخر تسعينات القرن الماضي "كلية أمل للحقوق". وذلك بسبب سيطرة "الحركة" الشيعية عليها، وتدفق الطلاب الموالين والمحازبين لها عليها، راغبين في التخرج منها ليعملوا محامين، ويحمل كلٌ منهم لقب الأستاذ الذي ينادى به المحامي عادة، ورئيس "حركة أمل" وأستاذها على وجه التخصيص.

والأستاذ "الأملي" الكبير كان طالباً في الكلية إياها وتخرج منها، وصار محامياً. وروى نضالاته الطلابية فيها في ستينات القرن العشرين، ونشرها في كتاب عنونه "أسكن هذا الكتاب"، كما يسكن أبدياً في قصره بعين التينة محوطاً بحراسه الذين تسميهم حركته في أهزوجتها الأخيرة: "حرس الرئيس".

ومن هذا التراث "العريق" كانت سيرة الجامعة اللبنانية على مثال الفرع الخامس في صيدا وما أصاب يومياتها طلاباً ومدرّسين وإدارات.