احتضار ساحة النور: الثورة تخسر جغرافيتها

جنى الدهيبي
الأربعاء   2020/01/29
اكتسبت ساحة النور رمزية مركزية في الانتفاضة (Getty)

منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية، في 17 تشرين الأول 2019، تحولت ساحة النور في وسط طرابلس إلى أرض للثوار، يتوافدون نحوها، نظرًا لوسطيتها ومركزيتها بين مختلف المناطق الشمالية. ومنذ ذلك التاريخ، لا تزال الساحة مقفلة بكامل مساربها واتجاهاتها بالعوائق، فتحولت من ساحة مركزية للمرور إلى مستقر للتظاهرات والاعتصامات وخيم الناشطين. وهو ما جعلها تكتسب رمزية مركزية في جغرافيا الثورة.

"ساحة النور" ومحيطها، لم يعد حالهما يشبه ما قبل 17 تشرين. المحلات التجارية تأثرت حكمًا بواقعها الجديد، ووسطها تحوّل لاحقًا إلى مساحةٍ فارغةٍ لمدّ البسطات وتجوّل بائعي القهوة والمرطبات. مع تقدّم الشهرين الأوليّن، وبعد أن شهدت طرابلس تحولات كبيرة في ثورتها، إن لجهة خرق ساحتها أمنيًا وسياسيًا، أم لجهة مقاومتها الدائمة على المضي في ثورتها مع مواجهة المندسين والمشبوهين والمخبرين، أصبحت قضية "إغلاق ساحة النور" مسألة جدلية كبرى في المدينة، بين مؤيدين ومعارضين للإغلاق، نظرًا لكونها عقدة المواصلات في الشمال.

تبدل المجتمع الطرابلسي
من واكب ثورة طرابلس في بداياتها، حين كان يتوافد إلى الساحة يوميًا عشرات الآلاف من الثائرين والثائرات، ومن مختلف المناطق الشمالية واللبنانية، يدرك الفرق الذي أنجزته في إعادة خلق نسيج اجتماعي جديد، أكثر انفتاحًا ومزجًا بين مختلف الطبقات والشرائح، حتّى كاد المجتمع الطرابلسي ومحيطه يعيد انتاج منظومته الاجتماعية من جديد، خارج عباءة الأحزاب والطوائف والأيديولوجيات. هذا الدور الذي لعبته ساحة النور، أزعج لاحقًا السلطتين السياسية والأمنية، وشكّل استفزازًا كبيرًا لهما. وبما أنهما لم يُحسنا قطع الطريق على الثوار باتجاه ساحة النور، لجأت بعض "الجهات" إلى خلق خلايا وشبكات من المندسين والمشبوهين وحتّى "الزعران"، فنصّبوا بعض الخيم وأوكلوا أدوارًا لـ"شبيحتهم"، كي يركبوا موجة الثورة مقابل تأدية "واجب" ضربها وتفريغها من ناسها وتشويه سمعتها، لدرجة أصبحوا يتصدرون المشهد الإعلامي والشاشات اللبنانية!

مع تقدّم الأيام، انسحب جزء كبير من أبناء المدينة من الساحة، ولم يستمروا بالتردد إليها، وكان لسان حالهم "لم تعد تشبهنا". جزءٌ آخر، ورغم صعوبة التحديات بإعادة الزخم إلى أيامه الأولى، لم يغلبه اليأس، فاستمرت مجموعات مدنية ناشطة في لعب دور تنشيط الساحة من جهة، والمواظبة يوميًا على عقد حلقات الحوار داخل الخيم عند هامش الساحة من جهة أخرى.

سجال والتباس
السجال حول مصير "ساحة النور"، فتحًا أو إغلاقًا، لم ينفصل عن الأحداث التي شهدها وسط بيروت صباح الثلاثاء، مع ما أبداه عناصر الجيش والقوى الأمنية من إصرار على إعادة فتح ساحة الشهداء، في محاولة صريحة من قِبل السلطة للقضاء على الثورة وإنهائها في الشارع. ففي الوقت نفسه، وقع إشكال في "ساحة النور" نتيجة الإلتباس بمحاولات إزالة البلوكات لفتح الساحة. لكن، سرعان ما تبيّن لاحقًا أنّ الأمر ليس صحيحًا، وأنّ ما جرى هو قيام أحد متعهدي شركات الباطون باستقدام شاحنة لفكّ الدعامات الحديدية التي سبق أن نصّبت لتثبيت المنصة الشهيرة في مبنى الغندور فوق بنك لبنان والمهجر. 


وقد أوضح عضو بلدية طرابلس المنهدس جميل جبلاوي أنّ "أحد أبناء طرابلس تبرع بكلفة إيجار الدعامات على أساس شهرين، ولكن الآن قطعنا 3 أشهر ونصف. وتمّ تركيبها من قبل أحد متعهدي شركات الباطون في طرابلس، وهي ملك شخصي للشركة".

وبينما تمرّ الثورة على مستوى لبنان في مخاضٍ صعبٍ وعسير، في ظلّ تعنّت السلطة وبطشها، يبقى السؤال الأكثر جدلًا في طرابلس: هل نعيد فتح ساحة النور أم نبقيها مغلقة؟ وهل فتحها يعني إنهاء الثورة والقضاء على آخر رموزها في عاصمة الشمال؟

الأدوات الثورية
يعتبر الصحافي والناشط المدني يحيى الصديق، أنّ إشكالية الساحات المغلقة في لبنان، ترتبط بطريقة تعاطي السلطة مع الثورة، سياسيًا وأمنيًا، وهي تسعى إلى إنهائها والقضاء عليها بطريقة تدريجية. يقول: "في البدء، حاولوا الضغط لفتح المدارس والجامعات، وبعدها حاولوا افتعال المشاكل لمنع قطع الطرقات، وهم حاليًا يسعون إلى فتح ما تبقى من ساحات مغلقة، من أجل القضاء على الأدوات الثورية التي يملكها الناس، ومحاصرتهم بكل قدراتهم على المواجهة، حتّى لا يمدّوا من عمر الثورة". ويشير الصديق أنّه بعد فتح الطرقات تدريجيًا وعودة الطلاب إلى الدراسة، بدأت الحياة تستعيد طبيعتها كأن شيئًا لم يكن. و"إذا فتحنا ساحة النور، يصعب علينا إعادة إغلاقها، لأنها قد تكون من آخر الأدوات الثورية في طرابلس، وقد اكتسبت رمزية وطنية كبرى من الشمال إلى الجنوب، وأصبحت أيقونة الثورة في لبنان"، يضيف الصديق: "فلنعتبر أنّ هذه الساحات معطلة بسبب متعهد لم ينهِ عمله، بينما هي في واقع الحال معطّلة من أجل صيانة الوطن".

من جهته يعتبر عضو بلدية طرابلس ورئيس لجنة التنمية المحلية والجمعيات باسل الحج أنّ ثمّة محالات تجارية كثيرة في محيط الساحة تضررت من إغلاق الساحة، ولحق بالكثيرين ضرر اقتصادي، ناهيك أنّ اغلاق الساحة يلعب دورًا في ازدحام السير، مع إصراره الحفاظ على استمرارية الثورة. يقول: "جزء كبير من العاملين في محيط الساحة يرغبون بإعادة فتحها، مع تنظيم حركة العربات. ويمكن أن نلجأ إلى فتح الساحة جزئيًا في الصباح، وبعد الظهر حتّى الليل يُعاد إغلاقها لتنسيق التحركات والأنشطة الثورية والمسيرات، ورأيي مبني على رصد آراء معظم المحيطين في الساحة".

لكنّ الناشط والمحامي فهمي كرامي، يعتبر أنّ "ساحة النور" اكتسبت رمزية كبيرة، وإعادة فتحها هو بمثابة دفع الناس للإحباط، واعتبارهم أنّ الثورة قد انتهت. ويقترح إبعاد الخيم للجهة الخالية من المحالات، من أجل تخفبف الضغط. يؤيده الناشط والباحث قاسم الصديق بالقول: "الساحة صارت رمز الثورة، فتحها يعني حجب الصورة المشرقة للمدينة وإمكانية إعادة بث تلك الصورة المشوهة عنها. ولكن يبقى أن ضمانة الساحة بناسها، ومتى انكفأ عنها الناس، خفت دورها الثوري الجامع. فللذين يتمسكون بالساحة: هلموا إليها وأحيوها".

أمّا الناشط علاء خضر، فيختصر موقفه قائلًا: "فتح ساحة النور يعني إطلاق رصاصة الرحمة على الثورة في كلّ لبنان".