من وجوه الثورة: ليا تكتشف انتماءها إلى شعب حيّ

نادر فوز
السبت   2019/11/16
خَطَبَ عون.. فـ"كرجت" نفسها من الأشرفية إلى الرينغ (المدن)

على كرسي مُدَولب، وصلت شابة ترفع علماً لبنانياً إلى ساحة الشهداء. هي نفسها التي توجّهت إلى بعبدا في اليوم السابق، وإلى الرينغ قبله. لم تغب عن ساحات بيروت منذ اليوم الثاني لبدء الانتفاضة. يومها كانت لا تزال بصحتّها الكاملة، إلا أنّ تدافعاً بالقرب من الشريط الشائك أفقدها توازنها. وبضغط الاكتظاظ والصدام، انطرحت أرضاً وكسرت رجلها. تعالجت سريعاً. وضعت رجلها بالجبس. استأجرت كرسياً مدولباً ونزلت مباشرة من المستشفى إلى الساحة. هذه قصة إصرار وتحدّي، بطلتها ليا فريحة (28 عاماً)، واحدة من آلاف القصص التي يحملها المتظاهرون والمنتفضون معهم إلى ساحات لبنان.

اقتحام السياسة
لم تتمسك ليا بالتقرير الطبي للجلوس خلف شاشة التلفزيون ودعم الثورة فايسبوكياً، لا بل أنها تورّط أصدقاءها وتجبرهم على مرافقتها لدفع الكرسي إلى الساحة. وهم في الأساس، لا يتلكّؤون في النزول والمشاركة. ليا، شابة لبنانية تحمل جواز سفر فرنسي، لم تعنِ لها السياسة يوماً، ولم يسبق لها أن تابعت حواراً سياسياً على الشاشة. لم تنتخب ولم يستنفرها مطلب سياسي من قبل. لم تشارك في تظاهرات "طلعت ريحتكم" ولا "ساحتيّ 2005"، على الرغم من أنّ نشرات الأخبار والملاحق والبرامج الحوارية تلعلع في صالون بيت الأهل. ولكن "بعد 29 يوماً على التظاهر، بتّ أشعر وكأني أفهم السياسة أكثر من أهلي". "لم أشعر من قبل أني لبنانية، ومنذ ولادتي أقول أني فرنسية، ولم أجدد أصلاً جواز سفري اللبناني منذ عشر سنوات".

كانت فرنسية، وأصبحت اليوم "لأول مرة لبنانية، وأشعر بالأمل والتغيير، أشعر بأني أنتمي إلى شعب حيّ وإلى بلد قادر على التجدّد والتطوّر".

ما الذي تغيّر؟ جيل غير مسيّس، لا بل بعيد عن السياسة بشكل كامل، يجد نفسه اليوم متصدراً للساحات وحركة التغيير والمحاسبة. ببساطة، شعور القرف العامر الذي اجتاح مئات آلاف اللبنانيين، طفح. أهلها على مشارف التسعين من العمر بلا ضمان ولا تأمين صحي، الوظائف مختفية، الحقوق مهدورة والحرية مصادرة. حان وقت الثورة.

من باريس إلى الأشرفية
يوم الحوار "الفضائي" مع رئيس الجمهورية، نزلت ليا بمفردها من المنزل إلى جسر الرينغ. "كرّجت نفسي من الأشرفية بعد ذلك الاستفزاز"، واعتصمت وبقيت في الساحة: "خطاب أدى إلى سقوط دم في الشارع، لكننا مستمرّون". هذا فصل إضافي من قصة الإصرار، وشعار "كلن يعني كلن حيّ، الزعماء والفاسدون وعناصر قوى الأمن والجيش الذين يعتدون على المتظاهرين، كلهم سيحاسبون". ومن دعا المنتفضين إلى الهجرة، ربما لم يكن يعلم أنّهم على عتبة الهجرة بسبب وضع العهد والحكم والسلطة والبلد بشكل عام.

قبل عام، عادت ليا إلى بيروت من باريس للاهتمام بأهلها الطاعنين في السن. وقبل أسبوع من انطلاق الانتفاضة، كانت تهمّ بالرجوع بعد أن فقدت الأمل. لكن من الصدف الجميلة أنّ القرف الجماعي كان قد فاض. وتقول إنها كانت تحاول أيضاً "تأمين الأوراق لأهلي لكي يغادروا معي". الأهل المسيّسون، الخائفون من أحداث أمنية وحرب جديدة يضيفونها إلى سيرهم الذاتية الخاصة بالحرب والاقتال. ذلك الجيل عانى ما عاناه، ويخاف من تكرار ما عاشه مع أبنائه: "وهذا أمر مفهوم، هم خائفون لكن لا يترددون في القول إنّ ما نقوم به بالشارع ثورة فريدة من نوعها لم يشهدها لبنان من قبل". ذلك الجيل معنا للتخلّص من رواسب الحرب والفساد والتقسيم والمحاصصة.

كيف يمكن لليا أنّ تختصر الثورة بكلمة؟ "هذه الثورة ستبني لبنان أو تهدمه، أحلى وأجمل وأكبر وأضخم وأذكى ثورة في تاريخ لبنان، نحن نغيّر التاريخ. تاريخ غير الذي قرأناه ودرسناه في الكتب، بعيدٌ عن الحرب والدم والرؤوس المقطوعة، تاريخ سيدرسه أبناؤنا لاحقاً ويجدون أنّ الثورة هي فئات منتفضة ترقص وتغني وتمارس اليوغا للحصول على حقوقها البديهية، كيف يمكن اختصار ذلك"؟ ما يحصل لا يمكن اختصاره بكلمات ولا بمقالات أو كتب، بل قصص فردية وجماعية تُكتب كل يوم.