جميل القاصوف ملك الطحين والبرغل في البقاع

لوسي بارسخيان
الخميس   2018/05/03
استأجر القاصوف المطحنة لـ15 سنة قبل أن يتملكها (لوسي بارسخيان)

عند قارعة نهر البردوني، في أول محطة له قبل أن يصل إلى مقاهي البردوني، يجلس جميل القاصوف أمام مطحنته، وعينه على سهل البقاع الذي اخضر بالمساحات الواسعة من سنابل القمح.

يطعم جميل عدداً من الدجاجات التي رباها على أطراف النهر لبيع بيضها البلدي. يشرف على بيع آخر أكياس البرغل والطحين المتبقية في المخزن. ويراقب مع ابنه تحضير المعدات للموسم المقبل، في حركة تصبح بطيئة جداً بمثل هذه الأيام من السنة، في انتظار أن يتحول لون السهل ذهباً، ويبدأ تهافت أكياس قمح إلى مطحنته، فيحرك عجلتها الموسمية.

هو يوم انتظار عادي في جدول حياة ابن الـ86 سنة الزمني، الذي "وقّته" على مواعيد موسم القمح وحصاده منذ كان عمره عشر سنوات.

يروي القاصوف أنه حين توفي والده، الذي كان يعمل في مقلع حجر، كان لا يزال طفلاً لم يعرف المدرسة، كغيره من أطفال جيله. فاصطحبته والدته إلى قريب لها، وطلبت منه أن يشغله في مطحنته.

كانت مهمته بداية تقتصر على الاستيقاظ باكراً ليحرك كميات القمح المفروشة على سطح المطحنة حتى تجف. إلا أنه تعلم لاحقاً كيفية ادارة كل مرحلة من مراحل صناعة الطحين والبرغل، إلى أن أتاه أحدهم عندما بلغ 20 سنة، ليخبره عن مطحنة معروضة للاستثمار في قعر حي وادي العرائش.

استأجر المطحنة لـ15 سنة، قبل أن يتملكها مع شقيقه موريس، عندما بدأ بناء أسرته. اقتصر العمل حينها، كما يروي القاصوف، على طحن البرغل وتأمين الطحين للأهالي، حيث كان كل بيت يحتفظ بكمية 7 إلى 8 أكياس من القمح سنوياً. فيحضر صاحبه كل فترة كيساً منها لطحنه إما برغلاً أو طحيناً.

لكن، مع مرور الوقت، صارت المطحنة تعقد صفقات مع مزارعي القمح، لتموينها بغلة تسمح لها بتجارة البرغل والطحين، الذي بقي يصنعه بنفس مواصفات تأمينه للأهالي.

اختبر القاصوف كل مشقات المهنة، التي كانت كل مرحلة من مراحلها تدار يدوياً، من الغربال إلى المصول، وحتى المطحنة التي كانت تشغل بقوة دفع مياه البردوني، التي لم يكن ينقطع جريانها، كما يقول القاصوف، حتى في فصل الصيف، نظراً إلى "حقن" المياه في بركة كبيرة، كانت تدفع مياهها لتشغيل محركات محطة توليد الكهرباء، قبل أن تصب مجدداً في النهر.

لم يكن تخلي شركة كهرباء زحلة عن مرحلة حقن المياه لاستخدامها في توليد الكهرباء صيفاً، السبب الوحيد لاستبدال معدات المطحنة لتعمل بواسطة الطاقة الكهربائية. بل دفع تطور العمل، واتساع شبكة الزبائن، إلى البحث عن سبل تأمين غزارة أكبر بالانتاج، لتلبية طلبات السوق المتزايدة.

يحاول القاصوف أن يظهّر بعض أقسام مطحنته التي تعتبر شاهداً على مراحل تطورها، وتؤشر إلى تاريخها القديم، حتى لو لم يكن محفوراً على بنائها. فيشير إلى تعديلات كثيرة دخلت على تجهيزات المطحنة خلال 68 سنة من توليه ادارتها، إلا في نوعية القمح الذي يحوله برغلاً. فيؤكد أنه بقاعي مئة في المئة. أما أهمية التأكيد على "هوية" البرغل البقاعي الذي يبيعه، فهي الضمانة الوحيدة بأنه من "انتاج" الموسم الأخير، ولا غش فيه.

صدقية القاصوف جعلت مطحنته عنواناً مقصوداً، يتحول إلى محجة لسيدات البيوت من مختلف المناطق، يفتشون فيها عن وجهه، حتى وهو يسلم "وزناته" تدريجاً لابنه الاصغر، المهندس الذي أختير أميناً على المطحنة، الشاهدة على انتظام الحياة الاجتماعية والاقتصادية للبقاعيين، الذين لم تبدل سهولة الحياة العصرية عاداتهم المتوارثة، حتى في ظل إنفتاحهم على خيارات الحياة السريعة وغذائها المتبدل.