أكبر "متحف" باريسي.. مقبرة علمانية

محمد السعدي
السبت   2018/02/03
شهدت مقبرة الأب لاشيز أحداثاً دامية (Getty)
تقترن مفردة "مقبرة" بشيء من الهلع والوجوم. لكن مقبرة Père Lachaise الباريسية ترتبط أيضاً بحكايات طريفة وقصص لمئات المشاهير المدفونين فيها، بمن فيهم موليير ولافونتين، اللذين نقل جثماناهما إليها في العام 1817. فهي تشكل بجدارة المثوى الأخير للباريسيين ذائعي الصيت.

وقد يستحيل إيجاد أوجه شبه بين راحلين عاشوا في فترات مختلفة وأوساط متباعدة، وانحدروا من أصول وقوميات وجنسيات وأديان وطوائف متعددة، كالمغنية أديث ݒياف والشاعر غيّوم أݒولينير، والكاتبين أونوريه دي بالزاك وأوسكار وايلد، والمخرج السينمائي هنري ڨيرناي، والموسيقار فريدريك شوݒان، والجاسوسة سارة بيرنهارد، والعالم الفيزيائي لوي غاي- لوساك، والرسام يوجين ديلاكروا، والقائد العسكري العقيد فابيان، ورئيس الجمهورية فليكس فور.. وغيرهم بالمئات.

أجل، ثمة قاسم مشترك: كلهم يرقدون في تراب الأب لاشيز، أول "مقبرة علمانية" في فرنسا، دشنت رسمياً في عهد نابليون بونابرت، في العام 1804. وتنوع هويات الراقدين فيها هو ما يفسر العدد الهائل الذي تزخر به من منحوتات من الطرز والمدارس الفنية كلها.

ذلك ما يجعل ݒير لاشيز أحد أوسع وأغنى "المتاحف في الهواء الطلق" في العالم. إذ أسهم خيرة نحاتي القرن الـ19 في تصميم أضرحة المشاهير والأثرياء المدفونين هناك. من أولئك الفنانين، نذكر النحات دافيد دانجيه (1788– 1856)، الذي حصل على جائزة روما الرفيعة للنحت في العام 1811، في سن 23 عاماً. فهو الذي صمم أضرحة ماريشالات فرنسا، القواد العسكريين الذين عايشوا بونابرت وشاركوه معاركه المتعددة. وما شجع أولئك الفنانين على التفنن، هو ميل الأسر الباريسية الموسرة إلى التألق عبر تشييد مراقد متميزة لموتاها، والدفع بسخاء للنحاتين وبناة التوابيت وحفاري القبور وباعة الأزهار، بغية التباهي بتلك "الإنجازات".

هكذا تعددت الأنماط الفنية في المقبرة، التي تضم مدارس مختلفة، منها القوطية والرومانية والإغريقية والكلاسيكية. فعائلة شرود الغنية، مثلاً، كانت أول من اعتمد استخدام الزجاج الملون، كالذي نراه في بعض الكاتدرائيات، ما جرّ إلى انتقادات لاذعة وقتها، على أساس أن ذلك "اللون" الفني لا يليق بمقبرة. أليس هذا دليلاً على صحة مبدأ "خالف تعرف"؟ فلو لم تعمد تلك العشيرة الصناعية الثرية إلى تلك "الصرعة"، لما تحدث أحد عنها اليوم.

ومساحة المقبرة الشاسعة، 44 هكتاراً، بأشجارها الكثيفة وزهورها الغزيرة، وممراتها ومتاهاتها، تجعلها أحد أكبر "متنزهات" باريس. فكل شيء يخرج عن المألوف هناك. والمهندس ألكسندر- تيودور برونيار أثار حفيظة بني عصره حين تعمد، في تصميمه المقبرة، التخلي عن الخطوط المتناظرة والمسارات المتوازية. أكثر الأزقة ملتوية في "مقبرة شرق باريس"، مثلما سميت في البداية، ولا تسري وفق خطوط مستقيمة أو تناظر معين.

كان صيت المعمار برونيار قد ذاع قبل الثورة الفرنسية، حيث صمم قصوراً فارهة للنبلاء والموسرين. وفي العام 1808، أنجز "قصر البورصة" الباريسي المتميز. لكن الضجة التي أحدثها تصميم المقبرة الغريب لم تشمل كل النخبة الباريسية كلها. فالكاتب هنري بيل، مثلاً، المعروف باسم ستاندال (مؤلف رواية "الأحمر والأسود")، أحبّ المقبرة وطرازها غير الشائع، وعدّها الحديقة الوحيدة في باريس الجديرة بصفة "على الطريقة الإنكليزية". حتى إنه جعل المكان مسرحاً لقصة حب عذري حزينة بين شاب وابنة عمه، بطلي روايته "آرمانس" (نشرت في العام 1825).

فكيف أتت فكرة تشييد مقبرة "علمانية"، بمعنى غير محجوزة لموتى طائفة أو ديانة معينة؟ نابليون بونابرت هو الذي أوعز بسنّ ما سـُمي "قوانين واجب الأمة تجاه موتاها أياً كان عرقهم أو ديانتهم أو معتقداتهم". أتاح القانون، الذي نصّ على "أن من حق أي مواطن أن يدفن بكرامة"، إيجاد حلّ "للحالات المستعصية" المتعلقة بالموتى غير الكاثوليكيين، من البروتستانت والأرثوذكس واليهود (ولاحقاً المسلمين). كما وضع حداً لمشكلة الملحدين والمنتحرين، الذين كان يُرفض دفنهم في المقابر الدينية. والطريف أن جثث الممثلين والمسرحيين أيضاً كانت غالباً ما ترفض في المقابر "المتزمتة".

والحديث عن رفض جثامين "الكوميديين"، كما كانوا يسمون، يجرّ إلى القول إن من المفارقات أن عمدت بلدية باريس إلى نقل جثمان أشهرهم إلى مقبرة الأب لاشيز: جان باتيست ݒوكلان، المعروف باسم موليير. كان المسرحي الفذ قد ألّف وأخرج ومثل مسرحيات لاقت نجاحاً كبيراً في القرن الـ17، منها "البخيل" و"المريض بالوهم" و"دون جوان" و"طرطوف" و"طبيب رغماً عنه"، وغيرها، لا تزال تمثل حتى اليوم، وبمختلف لغات العالم.

كما نقل جثمان جان دي لا فونتين، صاحب حكايات الحيوانات والنباتات الشهيرة، التي استلهمها من حكايات "بيلباو" الإسبانية، المقتبسة بدورها من قصص شرقية قديمة، لاسيما حكايات "كليلة ودمنة". أجري نقل جثماني الأديبين في العام 1817، إضافة إلى جثماني "بطلة" و"بطل" اقترن اسماهما في مخيلة الفرنسيين بأساطير تعود للقرون الوسطى: إيلويز (المتوفاة في العام 1164) وآبيلار (المتوفى في العام 1142). واستهدفت "استضافة" أولئك الأموات المشاهير الأربعة الترويج للمقبرة، التي أهملها الباريسيون بداية بحيث لم تضمّ سوى 833 قبراً في العام 1812، بعد 8 سنوات من افتتاح المساحة الأصلية (17 هكتاراً). توجت تلك "الحملة الدعائية" بالتوفيق، حيث ارتفع عدد القبور إلى 33 ألفاً في العام 1830. وأجريت 5 عمليات توسيع لغاية العام 1850، لتبلغ المقبرة مساحتها النهائية: 44 هكتاراً (هي أيضاً مساحة دولة الفاتيكان).

ومن أسباب تشييد "الأب لاشيز"، أن باريس واجهت معضلة عويصة في إيجاد المدافن. فإذ نسمع أحياناً عن حالات "موت بالاختناق"، فإن باريس عانت حالة "اختناق بالموتى". ففي العام 1725، مثلاً، صُدم الباريسيون بنبأ نقل حوالي مليوني هيكل عظمي من "مقبرة الأبرياء" إلى "دياميس باريس"، تلك السراديب القابعة 20 متراً تحت سطح الأرض. تمّ نقل الجثث خفية، وفي الليل، بعد ما بدأ تكدسها في تلك المقبرة الجماعية العائدة للقرون الوسطى يمثل خطراً صحياً بالغاً. ولا تزال أتلال الهياكل العظمية متراكمة في "دياميس باريس"، التي تنظم لها "زيارات سياحية" مشوبة بالهلع والرعب.

وقد شهدت مقبرة الأب لاشيز أحداثاً دامية في أيار 1871، إبان الأيام الأخيرة من "كمونة باريس"، التي جاءت كرد فعل شعبي ضد الاحتلال الألماني وضد "مجلس الحكم" الموالي للاحتلال. إذ حوصر الثوار المعتصمون بالمقبرة، وتمت إبادتهم. لم يبق على قيد الحياة سوى 147، أعدموا جميعاً رمياً بالرصاص على "حائط الفدراليين". ويقدر عدد الثوار المدفونين هناك بنحو 35 ألفاً، أكثرهم ماتوا خلال الأسبوع الدموي الأخير من الكمونة.

وثمة كثير من القصص الغريبة عن "نزلاء" المقبرة. نذكر منهم أحد رؤساء الجمهورية الثالثة، فليكس فور، الذي مات في العام 1899 منهكاً بين ذراعي "بائعة هوى". يرقد ملفعاً بعلم "التحالف الفرنسي الروسي"، الذي شكل أهم إنجازات رئاسته. لكن العديد، وقتها، طالبوا بتكفين الرئيس الزاني بشرشف فراشه الأخير المدنس.

وهناك روايات ماجنة عن نسوة يأتين إلى المقبرة في الليل خلسة "للتبرك" بتمثال الصحافي الشاب فكتور نوار، الذي مات عن 23 عاماً مقتولاً بيد الأمير ݒيير بونابرت، أحد سليلي عائلة نابليون. فالنحات الذي صنع تمثال القتيل اختار له وضعا مشيناً، وجعل له "نتوءً" بالغ الحجم، يظن البعض أن لمسه أو الجلوس عليه يجلب حسن الطالع غرامياً. ألم يقل الكاتب ميشيل دانسل إنه يفضل "الحياة في مقبرة على الموت في مستشفى"؟ فهذا المؤلف الغريب أمضى سنوات يجوب كل ركن من أركان المقبرة، التي نشر عنها ما يشبه الموسوعة.

أخيراً، نشير إلى أن القطاع 85 مخصص للمسلمين. منهم، الكاتب الإيراني صادق هدايات، الذي انتحر في باريس في العام 1951. يحمل أحد مؤلفاته عنوان... "مدفون حياً".