جان بول خوري: هل يشرب النبيذ الذي يصنعه؟

لوسي بارسخيان
الإثنين   2018/10/29
يترك النبيذ انطباعاً غريباً في الفم لا يمكن أن نجده في أي مشروب آخر (لوسي بارسخيان)

تنتظم اوقات مصنّعي النبيذ منذ نهاية شهر أيلول وحتى مطلع كانون الأول على مواعيد قطف العنب وحفظه مخمراً في الخزانات. هي "الفترة" الثابتة من كل سنة، حين يحاولون أن يضعوا كل ما اختزنوه من خبرة وعلم، في تصنيع النبيذ الجيد الذي يتنافسون على أسواقه الداخلية والخارجية، بعد أن يكونوا قد اطمأنوا الى جودة مواسم العنب، لينطلقوا من بعدها الى مراحل تعبئة "القناني" وتعتيقها لفترة، ومن ثم طرحها في الأسواق وتأمين أفضلها وسط كم هائل من المنتجات المطروحة امام المستهلك.

هو جهد يومي يتطلب صبراً طويلاً، خصوصاً إذا ما كان المصنّع هو صاحب الاستثمار، وهو مَن عليه أن يشرف على المراحل كلها. حينها، يصبح نجاحه مقروناً بمدى "شغفه" بالنبيذ وصناعته، واستعداده للتضحية بجانب كبير من حياته العائلية والاجتماعية في سبيله.

جان بول خوري، هو واحد من هؤلاء المصنّعين، الذين يشرفون على مراحل "ولادة النبيذ" في معمله الذي أسسه الوالد منذ العام 2004، بسواعد تشابكت بين جيلين، استفاد الوالد من معرفة ابنه المهنية كـ"onologue"، وعملا معاً على انتاج نبيذ بمقاييس عالمية، شق طريقه سريعاً بين أنواع النبيذ الأخرى.

منذ "غرق" جان بول في صناعة النبيذ، كوّن تجربته الخاصة التي لم يقرأها في الكتب. هي خبرة يقول إن كل مصنّع لا بد أن يكتسبها مع تقدم كل سنة، من دون أن يعني ذلك أنه سيصبح معصوماً عن الخطأ، لأن أكبر مصنّع نبيذ في المهنة لن يختبر مهمة التخمير سوى أربعين مرة في حياته، وهو عدد لن يعتبر كافياً ليبرر اصابة المصنّع بالغرور.

يتحدث جان بول لـ"المدن" عن "انقباض المعدة" الذي يسيطر على المصنّع عند كل مرحلة تخمير، "كما التلميذ الذاهب الى تقديم امتحاناته". ففي هذه الفترة بالذات، إما أن يترجم جهد سنة كاملة وضع في الكروم، نبيذاً مخمراً بشكل جيد في الخزانات، أو يذهب هدراً، إذا ما تعرض لأي انتكاسة. وهنا تتدخل خبرة المصنّع والمعرفة التي يتمتع بها لتخفف الاضرار التي يمكن أن تقع خلال هذه المرحلة.

فبالنسبة إلى مصنّع النبيذ لا وجود لسنتين متشابهتين، او يمكن أن تعطيا النتيجة نفسها. عليه، بعد أن يعتاد أحدهم على العمل في سنة بطبيعة معينة، يكتشف في السنة التالية بحاجة ليغير المهارة التي اكتسبها، ولذلك ارتباط أولاً بالعوامل المناخية المتغيرة، التي تنعكس تبدلاً بطبيعة العنب وحموضته ولونه.

يشبّه جان بول النبيذ خلال مرحلة التخمير بأي "مكون حي"، خصوصاً في فترة التخمير، حيث يمكن أن يختلف طعمه بين يوم وآخر. كما الانسان، يمكن أن يستيقظ النبيذ في مرحلة التخمير بمزاج مختلف في كل يوم. أحياناً، إذا تنشق كثيراً من الهواء يشعر من يتذوقته بنكهة الفاكهة ورائحتها الذكية التي تنبعث من الخزانات. وهذه مسألة جيدة جداً. ولكن، في اليوم التالي إذا لم ينم بشكل جيد يستيقظ منزعجاً، وتبنعث منه رائحة رطوبة وعفن. ما يعني أن النبيذ "يصرخ" طلباً للهواء.

مزاجية النبيذ هذه تلزم منتجه تذوقه يومياً خلال مرحلة التخمير، وبناءً على ما يتذوقه، يتخذ القرارات اللاحقة بشأن منتجه. وهنا تكمن خطورة العملية.

يتعلم المصنّع أن لا يبتلع ما يتذوقه، وقد يستغرق ذلك وقتاً طويلاً أحياناً، حتى يكتشف أن ابتلاع ما يتذوقه قد يحوله مدمناً او يقصر سنين عمره بسبب مخاطر الكحول.

الوقت اذاً هو أكبر معلم لمصنّع النبيذ حتى يكتشف حدوده، والتي لا تتوقف عند العلم والمعرفة. فهما، كما يقول جان بول، أساسيان، ولكن يبقى الاهم هو أن يحب المصنّع مهمته، "لأن من يحب لا يعد". وهذا أساسي، خصوصاً في المراحل الأولى لتأسيس "الامبراطورية".

يشرح جان بول أن "انتاج النبيذ مصلحة مكلفة، لاسيما في سنوات التأسيس. ما يترك انطباعاً في البداية أن كل ما ينفق يذهب هباءً". ويقول: "نحن نبدأ بانشاء الخمارة وتجهيزها، مع تأمين المعاملات والرخص المطلوبة، بموازاة العوائق التي تقف بوجهنا، ومن بعدها نبدأ بأول عصرة عنب لإنتاج النبيذ، وهذا النبيذ يحتاج الى فترة ليخمر، ويعتق بالبراميل. حتى في المرحلة نهائية، أي ملء القناني، هناك فترة تعتيق الزامية لقناني النبيذ قبل أن تطرح في السوق. وهذه مراحل تستغرق سنة ونصف الى سنتين أحياناً. وخلالها نتكبد تكاليف الانتاج والموظفين والضرائب من دون مدخول. وهذه ليست مسألة سهلة".

عليه، يعتبر جان بول أن النبيذ منتج يخلقه جيل لتنعم به الاجيال اللاحقة، فيطور فيه الجيل الثاني، ويتخذ الجيل الثالث قرارات مصيرية بشأن ديمومته. من هنا، اهمية النزعة الموجودة لدى المصنّعين عموماً لاعطاء النبيذ اسماء عائلاتهم. إذ إن استمرارية المنتج تجعله مكوناً "تاريخياً"، حتى لو قرر مؤسسوه التخلي عنه، سيحافظ على هويته الأولى المرتبطة باسم العائلة.

بعد الجهد والتعب والتحديات، يكون المصنّع متشوقاً لأصداء منتجه عند متذوقيه. فعلى خلاف ما يعتقده كثيرون، ليس مصنعو النبيذ معجبين بهواة تجميع قناني النبيذ وتخزينها. بل يعتبر جان بول أن النبيذ منتج صنع ليشرب، وهو ليس مشروباً للانانيين، بل في صوت الفلينة التي تخرج من "بوز" القنينة، أجمل دعوة للمشاركة بين الاصحاب، ولتمضية وقت من اللذة، يجمع كل الحواس، التي تتحرك في مرحلة الإنتاج أيضاً.

فالنبيذ، كما يقول جان بول، منتج نبيل يترك انطباعاً غريباً في الفم لا يمكن أن نجده في أي مشروب آخر، مع أنه منتج يصنع من فاكهة واحدة هي العنب، لكن للعنب ميزة السحر التي تعطي طعمات وروائح مختلفة، لا تسمح بأي تشابه بين منتج وآخر، او بين منتج عامين متتاليين، حتى لو تشابهت أنواع العنب المستخدمة، وطرق الانتاج.

واذا كان النبيذ يتحمل التعتيق، فليس كل النبيذ طيباً عندما يعتق. كما الانسان مجدداً، يمر النبيذ بمراحل طفولة، فتوة، شباب، نضح، كهولة، ثم يموت. البعض يعيش 15 سنة وغيره اكثر بكثير. هناك نبيذ يصنع ليشرب في سن صغير لأنه يكون اطيب. وهنا نتحدث عن نوعي النبيذ الابيض والزهري، اللذين يكونان "ألذ" حامضين. فيما النبيذ الاحمر يصنع ليكون عمره أطول، وكلما خفّت حموضته صار اشهى. ولكن، هو أيضا له عمر. واذا كان مصنعاً ليعتق لـ15 سنة يجب التنبه كي لا يكون عمر الفلينة أقصر، وهذه مسائل يكتشفها المصنع والمستهلك تدريجاً مع خبرة العمر.

هي إذاً "ثقافة" النبيذ التي تتنقل بين المصنّع والمستهلك، والتي ترتبط بالمعرفة الجيدة لكيفية تذوق النبيذ، وللاحساس الذي يتركه بين الفم والعين والانف. عليه، إذا ما كان النبيذ الحلو او الزهري هو الاكثر استقطاباً للمبتدئين باحتساء الكحول، فإنهم مع تكون ثقافتهم حول طبيعة كل نبيذ وأنواع الاطباق التي تليق به، قد يتعرفون الى النبيذ الابيض "المذ". أما الرغبة بالنبيذ الاحمر فقد تستغرق وقتاً، حتى يفهم المستهلك طبيعة تكونه، فيصبح قادراً على تمييز ما يشربه، وما هي نوعية العنب المستخدم فيه، الى أي حد جرى تخميره وتعتيقه وغيرها من المميزات التي تخلق نوعاً من الرابط بين المنتج والمستهلك، ربما يتطور الى معرفة مباشرة بينهما، متى قاد "سحر" المنتج الى تعقب مصدر تلك الاحاسيس التي خلفها لدى متذوقيه.