جمال الساعاتي: عاشق طرابلس وأرشيفها الحي

جنى الدهيبي
الأربعاء   2017/09/20
يعملُ جمال على جردةٍ للأبنية التراثيّة في طرابلس
جمال الساعاتي وجهٌ عرفته طرابلس وأهلها. هو رجل طويل القامة ونحيل، يجوب أرجاء المدينة بسُمرته اللامعة من أشعة الشمس. وعيناهُ الخضراوان تلتقطان خفايا الأمكنة من وراء الكاميرا، التي يرمي ثقلها على كتفه.

لجمال شهرته التي لا ينافسه عليها أحد. يسير في المدينة والكلُّ يعرفه. هو ليس سياسياً، ولا مفتاحاً انتخابياً، ولا رجل أعمال يتباهى بماله. إنه موظف عادي في شركة كهرباء لبنان. لكن، حبه لطرابلس لم يكن عادياً. حَفِظَها وحَفَّظها بعدسته، فاشتُهِرَ رحالاً بين أهلها، يصور أبنيتها التراثية ويوثقها مع قصصها.

جمال البالغ 54 عاماً، يصف نفسه بـ"الفضولي"، ويجد في مهنته التي تستوجب منه قراءة عداد ساعات الكهرباء، الفضل الأول في اندفاعه نحو تصوير أبنية طرابلس القديمة. "أدخلني مجال عملي أماكن لا يدخلها غيري، فأرى ما لا يراه الناس، وأندهش بأشياء يظنّها الناس صالحة للتلف". 



يحكي جمال لـ"المدن"، قصّة ولعه بالكاميرا والتقاط صور تراث المدينة. "حملت الكاميرا منذ كان عمري 13 عاماً. كنت مهوساً بها، ألتقط كلّ ما أراه غريباً ويزيد من حشريتي في تذوّق جماليّته وراء العدسة". عندما كوّن جمال فكرةً شاملةً عن طرابلس، وخضع لدورة "مُعرِّف سياحي" ودورات تصوير، نزل إلى شوارعها وبدأ رحلة البحث التي يصف دوره فيها بـ"المُصوّر الميداني".

"لا ألتقطُ صورةً من دون أن أعرف قصّة تاريخها"، يقول. "هناك آثار تمرّ في المصادر التاريخيّة ولا صور لها. أمضي ساعات وليالي في البحث عن مكانها لالتقاط صورتها، وبعضها أستغرق وقتاً طويلاً في التفتيش عن معلومة حولها. مثلاً، الناعورة التي تمد القلعة بالماء بالأقنيّة الرومانية، ذكرتها المصادر من دون تحديد مكانها. فتشت عنها كثيراً، وجدتها تحت القلعة ووثقتها بالصور".

يتقصي جمال مصادره من مؤرخي طرابلس مثل الدكتور عمر تدمري وكمال البابا، وحتّى من المستشرقين الذين زاروها. ينبّش كثيراً، وبعضُ الصور تعرّض إلى خطر الموت من أجلها. فـ"قصر بيت النجار في السويقة، تسلقته قبل 4 سنوات بعلو 3 طوابق، كي أتمكن من تصويره وهو مُغلق، وكدتُ أن أقع".

أرشيف جمال يتضمن نحو 90% من أبنية طرابلس التراثيّة وقصورها التاريخية، في الأحياء والأسواق القديمة. "في أرشيفي أكثر من 5 آلاف صورة لطرابلس وحدها، ناهيك بصور تراثيّة أخرى لبيروت وصيدا وصور، ذهبتُ وحدي تحديداً لإلتقاطها".


"السياحة الداخليّة"، هو المجال الذي يسعى جمال إلى تنشيطه في طرابلس. "أتوجه إلى ابن طرابلس أولاً". ذلك "أننّي أنظم مع عددٍ من الأصدقاء المهتمين بجولاتٍ سياحية مجانيّة موجّهة إلى أبناء طرابلس، بدءاً من قلعة طرابلس نزولاً نحو الأسواق الداخلية ونمرّ بالمدينة المملوكيّة كلّها". يضيف جمال: "عندما يتعرف ابن طرابلس إلى تاريخه وتراثه الذي يجهله، سيسعى إلى الحفاظ عليه. فالمشكلة هي عدم وجود جردة شاملة للمعالم التراثيّة في المدينة. حتّى البلديّة لم تقم بذلك". وفي المقابل، "رافقتُ كثيرين أتوا من الجنوب وعاليه وبيروت، وأخرى أجنبيّة أتت من أسبانيا، وقد غيّروا فكرتهم عنها بعدما جالوا فيها".

لم تتوقف جهود جمال في الحدود الميدانية. فـ"عندما دخلت عالم فايسبوك، فكرتُ في استثماره والاستفادة منه كمنصة تعريفيّة لأهالي طرابلس عبر تزويدهم بصورها وقصصها". قبل عامٍ وشهرين، أنشأ صفحةً استغرق وقتاً في تسميتها، فرسى على "طرابلس الحاضر.. وذكريات لا تنسى"، كي يكون حاضرها امتداداً للماضي الذي يعشق توثيقه. "بدأنا بـ11 عضواً في الصفحة، وحالياً يتجاوز عدد أعضائها 55 ألف عضو".

حاليّاً، يعملُ جمال بالتعاون مع دائرة الأوقاف الإسلاميّة على جردةٍ للأبنية التراثيّة في طرابلس، التي يفوق عمرها 100 عام، وسيقدمها إلى البلديّة والجهات المختصّة من أجل الحفاظ عليها. "لا نريد أن يندثر حجر واحد منها".


جمال الذي لا ينتظر تقديراً رسميّاً من أحد، يأسف أنّ تكون مدينته التي كان اسمها "المملكة الطرابلسيّة الشريفة"، غارقة في النفايات، معتبراً أنّ "اهمال النظافة في طرابلس مخزٍ جداً، ويُشوّه جمالها. لو يدرك أبناء طرابلس قيمة مدينتهم، لما أهملوها إلى هذا الحدّ".