اشترى بيضة فتبين أن قيمتها 24 مليوناً

محمد السعدي
الجمعة   2017/09/15
هي مجرد بيضة ذهبية (Getty)

قبل سنوات، اقتنى كهل أميركي قطعة فنية مجهولة الهوية من أحد محال الأنتيكا لقاء 14 ألف دولار، أملاً في جني بضع "أوراق خضر" ربحاً من بيعها. 

هي مجرد بيضة ذهبية، تبدو تحفة عادية جداً، بحيث لم يتمكن صاحبها من بيعها طوال سنوات. أعرض الزبائن عنها متأففين، مؤكدين أنها "ما تحرز" 14 ألفاً. فتبين أنهم "على حق"، بما أنها لا تساوي ذلك الرقم إنما... أعلى بكثير: 24 مليوناً.

تلك هي المفاجأة السارّة التي حظي بها صاحب البيضة الذهبية، الذي يعمل في تجارة القطع الميكانيكية المستعملة. وبعدما "بارت" البيضة على منضدته أعواماً، فيئس من بيعها، فكر في تفكيكها للحصول على ذهبها وأحجارها الكريمة (ألماس وردي وسافير أزرق) وبيعها على حدة. وإن هو لم يفكك بيضته، فقد همّا. إذ قرر التروي ريثما يجد خبيراً في تلك التحف. فوجده في لندن. فزاره في مكتبه، وأراه الصور. فكاد الخبير البريطاني، واسمه كيران مكارثي، يغمى عليه: إنها إحدى حلقات فابيرجيه المفقودة، تحديداً البيضة الثالثة، التي أنجزها في العام 1887 صائغ القياصرة Karl Fabergé.

فلماذا يبلغ ثمن تلك المصوغة 24 مليون دولار؟ فهي في حجم بيضة دجاجة، بطول 7 سنتيمترات، وتضم ساعة سويسرية فاخرة ونادرة، مثبتة على قاعدة دائرية بثلاث أرجل بارتفاع 8.2 سنتيمتر، مذهبة ومزخرفة.

السبب في غلاء تلك التحفة الفاحش، ومثيلاتها الـ53 الأخرى، يتعلق بتاريخ الفن، إن لم نقل بالتاريخ نفسه. فبين القرنين الـ19 والـ20، أنجز الجواهري الروسي 54 تحفة فريدة خصيصاً للقياصرة، كل منها على شكل بيضة، في داخلها تحفة منمنمة أخرى، وأحياناً داخل الأخيرة منمنمات أصغر وأصغر، في غاية الدقة والإبداع. تم إيجاد 48 بيضة، بضمنها 10 معروضة في قصر الكرملين في موسكو، والباقي لدى جامعي تحف أثرياء وبعض المتاحف. وظلت نصف دزينة في عداد المفقودات، إلى أن عثر الكهل الأميركي على إحداها.


ثمة حكاية قديمة عن دجاجة تبيض ذهباً. أما بيض فابيرجيه، فهو الذي "يبيض" ذهباً لمن يحالفه الحظ فيجد واحدة.

فما هي قصة ما يعرف في تاريخ الفن بـ"مجموعة بيض فابيرجيه"؟ في صباح عيد الفصح للعام 1885، صحت ماريا فيودوروڤنا، زوجة قيصر روسيا، مكتئبة كباقي الأيام منذ اغتيال حماها، ألكسندر الثاني. ولتسليتها، أخرج بعلها، ألكسندر الثالث، بيضة من جعبته. فذلك تقليد راسخ في عيد الفصح (أو القيامة)، حيث يهدي الأوروبيون بيضاً من الشوكولاتة، أو يخفونه في زوايا المنزل أو الحديقة، فيسعى الأولاد في الصباح إلى إيجاده وتناوله.

لكن البيضة المهداة من القيصر إلى "القيصرة" لم تكن بلون الكاكاو، إنما بيضاء ناصعة براقة، وكأنها بيضة دجاجة فعلاً. فظنت ماريا أن زوجها يمزح بإهدائها بيضة "مسلوقة". إلا أنها، بعدما أمسكت بالبيضة في راحة يدها، وجدتها ثقيلة، واكتشفت أن "قشرتها" من ذهب خالص مطلي بمينا أبيض صقيل. فتحتها، فوجدت "صفارها" من ذهب خالص. فتحته، "ففقّس" دجاجة من فضة مذهبة وقرمز وعينين من ياقوت. فتحيرت، متأملة اللغز الأزلي: "البيضة من الدجاجة، أم الدجاجة من البيضة"؟ ولم تنتهِ المفاجآت، إذ تضم الدجاجة في أحشائها نموذجاً مصغراً لتاج روسيا، من الألماس والياقوت. فابتهجت الملكة بتلك المنمنمات البديعة المتقنة.

شاعت القصة، فتساءل الجميع: من أبدع تلك التحفة؟ فعرفوا أن المصمم صائغ مغمور يدعى كارل فابيرجيه (1846-1920). فبات الجواهري المبدع الممون الأول لحلي آل رومانوڤ، السلالة القيصرية، ومجوهراتهم وتيجان رؤوسهم.

فكيف وصل ذلك الاسم فرنسي النغمة إلى سان بطرسبرغ، عاصمة القياصرة؟ في الواقع، كان أصل أصول فابيرجيه يعود لأسرة بروتستانتية من منطقة پيكاردي، في شمال غرب فرنسا. وفي العام 1685، ألغي "مرسوم نانت" (الذي تعهد بموجبه ملوك فرنسا بحماية البروتستانت منذ العام 1598)، ما أفضى إلى التنكيل بالبروتستانت وارتكاب مجازر ضدهم، أشهرها "سان بارتيليمي". فلاذ جلّ من تبقى من الطائفة إلى الفرار، لاسيما إلى سويسرا. لاحقاً، غادر آل فابيرجيه سويسرا، واستقروا في سان بطرسبرغ.

مجموعة المجوهرات البيضاوية تلك تعدّ من أبدع إنجازات فابيرجيه وأكثر تحف تلك الحقبة إثارة. إذ عهد ألكسندر الثالث، منذ العام 1885، على تقديم بيضة جديدة لزوجته كل عام في عيد الفصح. وبعد وفاته، واصل التقليدَ ابنُه نيكولاس الثاني لغاية العام 1916، وشمل بعطفه ليس حرمه فحسب إنما أمه أيضاً. فأهدى لكل منهما قطعة في كل عام، في داخلها "مفاجأة" جديدة مستلهمة من حياة السلالة وأحداثها اللافتة، كأعياد ميلاد أفرادها وزيجاتهم وولاداتهم.

لم تحمل تلك التحف الماركة المعاصرة المعروفة لحلوى بيضاوية من الشوكولاتة للأطفال، مغلفة بورق ألمنيوم باللونين الأبيض والبرتقالي. لكن المبدأ واحد: إقحام "مفاجأة" داخل كل بيضة. وتؤمن تلك الوسيلة ربحاً وفيراً لمنتجي الحلوى. فالأطفال، حالهم حال أميرات روسيا، يتوقون إلى معرفة المفاجأة، فيلحّون على أهاليهم لكي يشتروا لهم البيض المذكور.

أما فابيرجيه، فبذل جهداً تخيلياً هائلاً لإيجاد أحلى المفاجآت. فمثلاً، سميت نسخة العام 1891 "بيضة آزوڤا" لأنه خبأ فيها نموذجاً لسفينة "پريمات آزوڤا" الشراعية، التي دارَ وليُ العهد حول العالم على متنها. وفي العام 1897، لمناسبة تتويج نيكولاس الثاني، ضمت البيضة، تحت "القشر" الذهبي المطلي بالمينا المنقوش، نموذجاً للعربة الإمبراطورية، بعجلات من الذهب المعزز بالبلاتين ونوافذ من البلور الصخري. وأبدع فابيرجيه في النمنمة بحيث صنع للعربة، الصغيرة أصلاً، درج صعود ضئيلاً قابلاً للفتح والإغلاق. وفي بيضة أخرى، خبّأ فيلاً... أجل فيلاً هندياً، مع "سائقه" المعمم على ظهره. وبلغ الصائغ الفذ ذروة النمنمة في العام 1900، حين أدخل في البيضة قاطرة من سكة حديد سيبيريا، تجرُّ 4 مقطورات، منها عربة النساء و"المصلى". أقحم فابيرجيه ذلك كله في بيضة بطول 13 سنتيمتراً، نقش على غلافها مسار خط السكة الحديدي العابر لسيبيريا الشاسعة، وأبرز كل مدينة يتوقف فيها بحجر كريم في موقع المدينة على الخريطة الضئيلة.