قصص فريق الفاتيكان لطرد الشيطان

محمد السعدي
الأحد   2017/08/27
تزايد الطلب على جلسات طرد الأرواح في ايطاليا (Getty)

ما ركب إبليس كاثوليكياً إلا وكان طارد الشيطان ثالثهما. فالفاتيكان يأخذ الموضوع مأخذ الجد. ويتلخص اجتهاده بالتسليم بوجود الشيطان. بالتالي، ضرورة مكافحته وملاحقته. هكذا، في العام 1999، أصدر مقر البابوية مرسوماً لتحديد مهمات "المُعزِّم"، وهو رجل دين مهمته طرد الأرواح الشريرة وشفاء من يتملّكهم إبليس عبر طقوس محددة. وتستند الوثيقة إلى "فتاوى" مجمع لاتران المسكوني، العائد لسنة 1215. ويُعرِّف المرسوم الأبالسة بأنهم "مخلوقات ملائكية ضلّت الصراط السوي، فاختارت معصية المشيئة الإلهية لكي تفسد خلاص الروح".

فمنذ قرون، يضم الفاتيكان مجموعة مُعزّمين Exorcists، أو طاردي أرواح، أشهرهم رئيسهم الراحل، الأب غابرييلي أمورث Gabriele Amorth، المتوفى في العام 2016 عن 91 عاماً، عقب 60 عاماً من ممارسة طرد الأرواح. إذ كان يستقبل يومياً نصف دزينة من "المرضى" في "عيادته" في الفاتيكان، ويعينه أثناء "المعاينة" خمسة أشخاص، هم راهبة وأربعة معزمين مدنيين، من خارج سلك رجال الدين. أما "عُدّة العمل"، فتتألف من صليب ومِرشّة ماء مبارك وشيء من "الملح المعزَّم". وطبعاً، كان يكثر من ترديد أشهر تعويذة باللاتينية: vade retro satana، أي "ارجع إلى وراء يا شيطان".

ومن بين من ركبهم الشيطان، واجه الكاهن حالات شائكة. مثلاً، في العام 2000، بدأت فتاة إيطالية في سن 19 بالعويل بشكل مذهل وسط ساحة القديس بطرس، عقب انتهاء البابا يوحنا بولص الثاني من ترديد الدعاء. لم يساور الأب أمورث أدنى شك في إصابتها بهوس شيطاني. فأولاً، بدأت تتفوه بكلام مبهم، مكيلة الشتائم بصوت مُدوٍّ في وجه سكرتير الفاتيكان وقتها، الكاردينال دانزي، الذي هبَّ لتهدئتها. وثانياً: حين سارعت الشرطة لاعتقالها، أبدت قوة خارقة غير متناسبة مع بنيتها. إذن، استجابت للشروط: إذ يحدد المرسوم البابوي بشكل دقيق "أعراض" الهوس الشيطاني: "التحدث بلغة مبهمة أو مجهولة، وإبداء معرفة بأمور بعيدة المنال وخفِية، وقوة بدنية غير متناسبة مع السن وبنية الجسم، والتمسك بكُرهٍ راسخ إزاء الخالق ويسوع ومريم العذراء".

ولما أدرك الأب أمورث عجزه عن معافاة الشابة، أخبر سكرتير البابا الشخصي بفحوى "تشخيصه". فتوسط الأخير لدى البابا نفسه ليشفيها، مثلما يحصل حين يعجز طبيب عام أمام حالة مستعصية، فيوصي بمريضه إلى جراح مرموق. فاستقبلها البابا على انفراد لنصف ساعة، ساعياً إلى تخليصها بالابتهال والتعويذ ومسح وجهها بهدوء. ذلك ما كشفه الأب أمورث، مضيفاً أن الفتاة، حين تكون في وضعها الاعتيادي، "طيبة جداً وطاهرة وورعة، لكن حلَّ عليها سحرٌ مؤذٍ في سن 12، وهو لعنة أشد وطأة من الهوس الشيطاني". وفي اليوم التالي، عاود أمورث الكَرّة معها، فنوَّهت أصواتها الشيطانية في هذه المرة إلى جلسة الأمس مع البابا. وأعرب الأب عن بالغ أساه لرؤيتها تتعذب، وعن أسفه "لرؤية الملعون (إبليس) يتغلب في هذه المرة"، مضيفاً "أنه تكلّم على لسان الفتاة، فقال: حتى حبرك الأعظم لم يستطع شيئاً ضدي. وكان حقاً فرحاً بنصره، منتشياً متشفياً، أكاد أسمعه يقهقه، مختالاً متهكماً".

فالأب أمورث، الذي أنجز أكثر من 80 ألف جلسة طرد أرواح، كان "يتحدث يومياً مع الشيطان"، مثلما اعتاد القول بإصرار، موضحاً: "أكلّمُه باللاتينية، فيردّ عليَّ بالإيطالية". فهل إبليس غير موهوب في اللغات الميتة؟ أم إنه يتعمد اختيار لغة حية لأنها أقرب إلى قلوب السذج، ما يسهل بلوغ مآربه؟

والويل لإبليس إن ظهر في مكان عام: فالمفتش ماركو سترانو متأهب بالمرصاد لإلقاء القبض عليه. ففي تشرين الأول 2004، كلفته روما رسمياً بحبس الشيطان وجرجرته إلى المحاكم... من ذيله. وسترانو هذا ليس شرطياً عادياً، بل يحمل شهادة جامعية في علم النفس، وأخرى في علم التحقيق الجنائي. كما درس بشكل مستفيض تاريخ "العلوم" الباطنية والشيطانية، واكتسب خبرة شخصية في طرد الأرواح. لكن مهمته الأصلية انصبّت على "مكافحة شبكات تستخدم الانترنت لاستقطاب القاصرين إلى ملل مشبوهة، ثم استعبادهم وتحويلهم إلى أحياء/ أموات طيعين".

تعلّم سترانو كثيراً عن طقوس الملل. يقول إن عبيد الشيطان يفضلون الالتقاء في ليالي البدر التام والسبت "إذ يستبشرون خيراً بالتأثير المشؤوم لكوكب زحل في السبت". وغالباً ما ينتهي "القداس" بحفلة جماعية خليعة. وأحياناً، يجبر زعيم الملة أفرادها على الانتحار الجماعي (مثلما حصل مع ملتي "واكو" الأميركية و"المعبد الشمسي" السويسرية). يضيف المفتش أنه تسلم آلاف المكالمات من أشخاص مقتنعين بالإدلاء بمعلومات من شأنها تسهيل الإمساك بالشيطان. ويوضح أن "عدداً مذهلاً منهم يظنون صدقاً أن إبليس ركبهم، فيما يَشي آخرون بأصدقاء وأقارب وجيران وزملاء، متهمين إياهم بالانصياع للشيطان".

اتصلت امرأة تولول، صارخة أن "مفيستو" (إبليس، بالإيطالية) يلاحقها ويضرب رأسها، وتتوسل مستنجدة. وبعد التحقق، تبين أن "الضربات" أتت من مكنسة خادمة الشقة في الطابق الأعلى، التي كانت تنظف البيت. ويقول سترانو إن غالبية المكالمات من هذا النوع، وإن من العسير جداً إقناع هؤلاء المساكين باستشارة طبيب نفسي.

في إحدى المرات، هدَّدت شابة من ضواحي روما بالانتحار للخلاص من إبليس، مقتنعة بأنه كان ينطحها بقرنيه ليبقر بطنها. حصل ذلك على منتدى دردشة على الانترنت. فتمكن سترانو ومساعدوه من تحديد المكان من رقم الهاتف، واقتحموا الشقة، فأمسكوا بالشابة لحظة كانت تهمُّ فعلاً بالارتماء من الشباك.

وإزاء تزايد الطلب على جلسات طرد الأرواح، استحدثت جامعة الفاتيكان، في العام 2005، دورة خاصة لتأهيل المعزّمين في جامعة ريجينا أݒوستولوروم الكُنسية. ويحضر طلبة اللاهوت المعنيون حصصاً في علم النفس واستحضار الأرواح وتاريخ الحركات الشيطانية وطقوسها ورموزها وعلامات تجليها، ودروساً عملية لتمييز حالات الهوس الشيطاني من الاضطرابات العقلية والنفسية. وصادف إقرار هذه الدورة التدريبية (الوحيدة في العالم) مع نشر دراسات تثبت تفاقم تأثير الملل الشيطانية في إيطاليا، حيث أعلنت لجنة تحقيق برلمانية عن وجود أكثر من مئة محفل لعبدة الشيطان في البلاد. أصاب الأب أمورث: الشيطان يُحبذ الإيطالية حقاً.