يوم قتل "رئيس جمهورية الفلتانة"

حسن الساحلي
الجمعة   2017/03/03
لم تكن الرشاشات قد وصلت بعد (Getty)
قُتل مهدي عقيل جعفر، في العام 1957، أي قبل عام من اندلاع الحرب. لم يكن بحوزة العشائر يومها سوى بواريد ألمانية تحمل 5 رصاصات، يتوجب عليك أن تلقمها في كل مرة تريد إطلاق النار. لم يكن الرشاش قد وصل بعد، وكان علينا الإنتظار عاماً بعد تلك الحادثة، حتى نرى رشاش الإف إم أوتوماتيك، الذي تم توزيعه خلال حرب 1958، وكان سلاح الجيش الفرنسي قبل الإستقلال.

أطلق مهدي عقيل على نفسه إسم "رئيس جمهورية الفلتانة"، بعدما تراكمت الدعاوي عليه، وعرف أن مصيره الطفر من الدولة طالما هو على قيد الحياة. لكن غلطته الكبرى كانت عندما أتى مراسل جريدة إلى الهرمل، بعد تزايد الحديث عن العفو العام الذي سيطال مطلوبي العشائر، فطلب مقابلته، بصفته "أحد الرؤوس الكبيرة". قال مهدي عقيل يومها متحدّياً السلطة: "إن كان كميل شمعون رئيس الجمهورية اللبنانية، فأنا رئيس جمهورية الفلتانة".

قررت الدولة الإنتقام، وعيّنت ضابطاً جديداً في المخفر، لا يساير كما الضابط السابق، أو ربما لا يعرف أن القصص لا تحدث هكذا في الهرمل، وبأنه لا يستطيع أن يقتل رجلاً بمكانة مهدي عقيل بهذه البساطة. دائماً ما تحدث نفس القصة، ويأتون بضباط غرباء، يظنون أن بإمكانهم اخضاع المنطقة، فيتسببون بحرب لا تنتهي إلا بموت كثيرين منا ومنهم. عندما نقتل منهم أحداً، ينتقمون من الناس. مرة دخلوا بيتنا وخرّبوه. وضعوا السكر فوق الملح، ورموا المكدوس على الأرض ودعسوا عليها. كنا نعيش سنة من تلك المونة التي خرّبوها. 

في أحد أيام حزيران من ذلك العام، كان مهدي عقيل خارجاً من أحد بيوت آل حمادة، بالقرب من منزول محمد سعيد باشا، عندما وصلت "الفسدية" إلى المخفر. كان هناك ساقية كبيرة، ذات مياه راكدة وموحلة، بمواجهة منزول الباشا. رأيتهم من بيتنا الذي يقع في أعلى التلة، يطلبون منه أن يسلم سلاحه. كنت أعرف أنه لن يسلّم، فهو يفضل أن يقتل على أن يعيش آخر أيامه في سجن تابع للدولة. رفع سلاحه فأردوه قتيلاً، فوقع في الساقية الموحلة. رآه إبن أخته الصغير الذي ركض وهو يصرخ، بأن الدولة قتلت خاله ورمت به في النعصة.

أخرجوا جثته من الساقية، وكان المشهد محزناً. في الليل، سمعنا صوت الرصاص يلعلع في الأجواء، كأن حرباً اندلعت فجأة. كنا نعرف أن وقت الثأر قريب، وبأن آل جعفر لا ينتظرون عادةً أن تنشف دماء قتلاهم. في المخفر لم يكن هناك سوى 5 عسكريين وضابط، ولم تكن تعزيزات الدولة قد وصلت. دق يومها على باب منزلنا رجل ملثم، يريد الصعود إلى السطح، لأنه مطل على المخفر. منعته أمي، وقالت له إن هناك أولاد وإن أبي في العاصي يهتم بالرزق، ولا يمكنه الدخول هكذا بدون أن يكون هناك رجل في المنزل.

طوّقوا المخفر من جميع الجهات، وفوق جميع السطوح القريبة. لم تعد تعرف من أين يأتي الرصاص. كانو جميعاً يطلقون النار على المخفر. العشائر الأخرى شاركت مع بيت جعفر، كما شاركت معهم أيضاً، قبل أشهر في معاركهم مع أهل فنيدق وعرب الفاعور. كانوا يريدون الثأر من الدولة، وكان الدم حامياً. أطلقوا جميعهم النار في الوقت نفسه، في اتجاه المخفر. حاول يومها أحد العسكريين المقاومة من السطح، فقتلوه، ثم انسحبوا إلى أراضيهم.