مقاومة الإكتئاب بـMeme

يارا نحلة
الخميس   2017/02/02
وسيلة بصرية مبسطة وساخرة توصل فكرة ما
تبدو النكتة الإلكترونية، أو ما يعرف بـMeme، كعدوى أصابت كثيرين، بعدما أخذت بالانتشار والتكاثر عالمياً، عابرة الحدود الثقافية واللغوية، وقد وصل تأثيرها إلى عوالم الفلسفة والأدب والعلوم الإنسانية والطبيعية والفنون على أنواعها، مغيّرةً طريقة تعاطينا وتفاعلنا معها.

إنطلاقاً من ذلك، يمكن تعريف الميم على أنها وسيلة بصرية مبسطة وساخرة توصل فكرة ما. فمن خلال اعتمادها على ركنين أساسيين، هما الصورة والعبارة الساخرة المكملة لها، تنجح في قول ما لا تستطيع الكلمات وحدها الإفصاح عنه، متجاوزةً بذلك حدود القصور الكلامي في تجسيد حالة أو شعور معين، لمصلحة عالمية التعبير البصري والغرافيكي. قد تستخدم الميم صور شخصيات كرتونية، أو قد ترسم تعابير وجه يسهل تمييزها من كل مستخدمي الإنترنت، من دون أن تقتصر على المتحدثين بلغة معينة.


تحولت النكتة إلى نوع أدبي قائم بذاته، ويمكن اعتبارها بديلاً من الأدب التقليدي، الخاضع لتراتبية النظام الاجتماعي وعمليات ضبطه، وفق معايير ثقافية واجتماعية محددة. فالرواية مثلاً، تعتبر ملكية عائدة لدار النشر والكاتب، تحكمها شروط التوزيع والتسويق العملية. ما يسمح لنا بتصنيفها على أنها إنعكاس للإنتاج الرأسمالي، في مقابل Meme التي تمثل عودةً إلى الأنماط القصصية الجماعية، يدفعها وعي جماعي، كما أنها مجهولة المصدر وقابلة للتعديل الفردي. وقد امتدت من الأدب إلى الفلسفة، فأخرجتها من رتابتها وحدودها النخبوية إلى نطاق التفاعل الشعبي معها. وهذا ما يظهر من خلال المشاركة الهائلة للنكات الفلسفية التي خصّصت لها صفحات مثل Postmodern Philosophy Memes.



ورغم طبيعتها المبسطة والعبثية أحياناً، تفيض الميم بمحتوى سياسي مشحون، وخير دليل على ذلك هو حرب الميم التي اختصرت المعركة الانتخابية الأميركية، ووجد المعنيون بها صعوبة في التعامل معها بشكلٍ جدي أحياناً، نظراً لكمية الهزل التي مني بها المرشحين.

لكن للحقيقة، هذه المعركة ما كانت لتطاق لولا البعد النقدي الساخر الذي أضفته النكتة. فقد سارت الأخيرة خطوة بخطوة، إلى جانب المسار التطوري الذي سلكته الحياة السياسية الأميركية، وجسدت الصراع القائم بين فئات المجتمع الأميركي بعد انتخاب ترامب، فكثرت النكات التي تسخر من "ليبرالية" الرافضين لمظاهر الشغب التي عمت الشوارع، ومن عنصرية ترامب وأنصاره، حتى أننا أصبحنا نجد على فايسبوك صفحات مكرسة للسخرية من ترامب، مثل Trump Memes وAnti-Trump Memes.


ولعل الظاهرة الأكثر لفتاً للنظر، هي الميم الساخرة من الذات، ومن الإنسان بشكل عام، بعاداته السلوكية ومعاناته وآلامه النفسية، ملامسةً حدود العدمية والعبثي. ومن أشهر صفحات الميم على فايسبوك، صفحة Humans of Late Capitalism التي تعرض أهوال الحياة الاستهلاكية المعاصرة التي يعيشها الفرد في هذا الزمن، لكن بطريقة ساخرة من الذات، ومن النظام المسيّر لها. حتى أن النظرية الاشتراكية والشيوعية، تحولت إلى نكتة ساخرة من الرأسمالية ومن نفسها في الوقت عينه، ويظهر الإبداع التهكمي في صفحات مثل Sassy Socialist Memes وCrappy Communist Memes، التي تصور شخصيات سياسية وفلسفية بطريقة هزلية ومضحكة، كماركس الذي يمسك بسيجارة حشيش بين شفتيه، أو لينين الذي يرتدي نظارات شمسية تظهره أشبه بالـ"جغل".

 
أخيراً، لا بد من التطرق إلى الميم التي تطال مجال علم النفس. وتتميز هذه النكات بجرأة تحويل الأزمات الوجودية والنفسية إلى نوع من الهزل. فيظهر لنا فرويد كإمبراطور النكت الموجهة نحو الذات، فتصبح العقدة الأودوبية موضوع سخرية ذاتية، و"الأم" موضوع ضحك ومزاح.

وتذهب بعض النكات أبعد من ذلك، حيث تسخر من الحياة والموت، من السعادة والحزن، ومن كل ما يمت للأسئلة الوجودية بصلة. فقد لاقت صفحات مثل Nihilist Memes (نكات عدمية) شهرة وشعبية واسعتين، بسبب سوداويتها الساخرة من أوهام الوجود والنجاح والحرية والحب وتحقيق الذات.


قد تكون الميم "وسيلة التمثيل" الأكثر شرعية وتعبيراً عن العصر الحالي. فمع إتسام هذا العصر بالسرعة، وسقوط كثير من القيم والثوابت التي كانت تنظم العصور السابقة، كان لا بد من إيجاد أداة تعبيرية، أدبية وفنية وسياسية جديدة، تتماشى مع هذا السقوط وتعبر عنه، من خلال الهزل الذي أصبح سلاح الفرد شبه الوحيد للتأقلم، ومواجهة اليأس والاكتئاب اللذين لا مفر منهما في ظل شروط الحياة المعاصرة.