هيئة تأديب رئيس البلدية.. تحاسب بـ"صرامة ولباقة"

عاصم بدر الدين
الثلاثاء   2016/01/26
في الفترة الماضية، أحيل ما بين 40 إلى 50 شكوى إلى الهيئة، أغلبها من عكار (أرشيف: المدن)
في قاعة المحكمة، في مبنى الهيئة العليا للتأديب في الأشرفية، يبقى رئيس البلدية واقفاً خلال مواجهته الأعضاء الثلاثة الذين يؤلفون الهيئة التأديبية الخاصة برئيس المجلس البلدي أو نائبه أو العضو الذي يتولى أعمال السلطة التنفيذية، وهي هيئة نُص على وجودها في المواد 103، 104، 105 و16 من قانون البلديات الذي صدر في العام 2000، لكنها لم توضع موضع التنفيذ إلا في العام 2012، بناءاً على مرسوم حمل الرقم 8555. ولا يبدو وقوف "المستجوب"، في هذه المحكمة، بعيداً عن فكرتها نفسها، اذ إنها في آخر عملها لا تبدو غير محاولة لتأمين ضبط نفسي للعاملين في الشأن البلدي، طالما أن عقوبتها القصوى هي العزل، أي اعفاء المتهم بعد اثبات مخالفته للقوانين من مهامه.


ولئن كان وجود مثل هذه الهيئة، التي يفترض أن تحاسب من يسيء إلى الخدمة العامة، سابقة في العمل البلدي المتفلت في وقت سابق من أي محاسبة، فإن الهيئة المستجدة نسبياً، عملت في مرحلتها الأولى وهي "مرحلة انتقالية"، على ما يسميها رئيس الهيئة العليا للتأديب القاضي مروان عبود، "على اعتماد عقوبات خفيفة، لأن رؤساء البلديات لم يكونوا معتادين على وجود المحاسبة، وقد أخذنا وقتاً حتى تمكنا من فرض أنفسنا عليهم وأخبرناهم أنهم أصبحوا مسؤولين الآن عما يقومون به، وكنا نجرب معاملتهم بصرامة ولباقة، فهم نخبة المجتمع، على ما يجب أن نفترض، وقد انتخبوا لهذا السبب". على أن تقبل رؤساء البلديات للاجراءات الجديدة لم يكن مضموناً، وبعضهم رفض الخضوع للمحكمة واستجواباتها، في البداية، "وهم يقولون إنهم منتخبون ولا يحق لأحد محاسبتهم، غير منتخبيهم".

لكن تفسير الرفض، عند عبود، لا يرتبط فحسب بعدم التعود على فكرة المحاسبة، بل لجهل رؤساء البلديات بالقوانين وأحياناً بالكتابة والقراءة، على ما لاحظ مراراً، "بينما يفترض أن يكون رئيس البلدية ملماً بقانون البناء والمحاسبة والعقوبات، ليتمكن من ادارة شؤون مجلسه. وهذه مشكلة، لا تحل إلا بتطوير معايير الترشح".

والحال إن الهيئة لا تستدعي رئيس البلدية إلى محكمتها، قبل إحالة ملفه من قِبل وزارة الداخلية وموافقتها على استجوابه. والشكوى يمكن أن يتقدم بها كل "متضرر في البلديات أو صاحب مصلحة"، وفق عبود، إلى وزارة الداخلية مباشرة أو أجهزتها المناطقية (المحافظة مثلاً) أو إلى الهيئة نفسها. "لكن الهيئة مجبرة على رفع الملف إلى وزارة الداخلية، التي يفترض أن تحيله إليها مرة جديدة". وهذا ما يبدو خللاً في النظام القضائي نفسه، إذ "يحب أن تكون صلاحية القضاء مرتبطة فقط بالقضاء، لا بعامل خارجي، فلا يجب على القاضي أن ينتظر أحداً ليباشر التحقيق". كما أن مرور ملف الشكوى في وزارة الداخلية، التي يحق لها تعليقه، يزيد من احتمالات غياب المحاسبة. إلا أن عبود، الذي يقول أن هذه الأمور تحصل أحياناً، يؤكد أنها لا تحصل عند وزير بعينه، "وهي لا تحصل عند الوزير الحالي".

في الفترة الماضية، أحيل ما بين 40 إلى 50 شكوى، أغلبها من الأطراف وعكار تحديداً، إلى الهيئة، التي أصدرت حكماً في 20 منها. في واحدة من هذه القضايا عبّد رئيس بلدية مشروع استملاك مياه ليؤمن وصول طريق لمشروع بناء ضخم، بينما هو يحرم آخرين، في البلدة نفسها، من حقهم بالحصول على طريق معبدة. في قضية أخرى، لم يسجل رئيس البلدية نفقات البلدية خلال عام كامل في سجل الصندوق. "وهو قال لنا أنه لا يوجد محاسب في بلديته، وهو لا يعرف كيف يسجل هذه الأمور. يمكنك أن تصدقه، في أول قوله، لكن الشك ضروري في أنه فعل ذلك من أجل تمويه تلاعب يحصل في أموال البلدية". وهناك رئيس بلدية ثالث كانت عنده مشكلات مالية، وعندما بدا له أن تورطه واضح "استقال من منصبه، ونحن لا يمكننا ملاحقته اذا استقال لأن عقوبتنا القصوى هي العزل". وفي هذه القضايا تستعين المحكمة بشهود من المواطنين وموظفي البلدية أو موظفي الدولة أو التنظيم المدني. وهي تمتد أحياناً لسنتين، وهي فترة يقول عبود إنه قررها بنفسه لأنه بذلك "يعاقب رئيس البلدية بشكل مضاعف، اذ أجبره على الحضور إلى المحكمة اسبوعياً مثلاً، ونوقفه في الصف، ونرسل اليه البلاغات. انه الضغط النفسي، وهو لا بد أن يشعر جراء ذلك بجدية عملنا، وفي كل الأحوال مهما كانت العقوبة التي نقررها ستكون درساً لكل رؤساء البلديات".

في كل الأحوال، لم يحدد القانون أصول عمل هذه الهيئة، ولا المخالفات المسلكية التي يفترض أن تحاسب عليها، لكن القانون البلدي يشير إلى تطابق عملها مع عمل هيئة التأديب العليا، التي تستعمل حالياً مكاتبها وموظفيها الذين لا يتجاوز عددهم الـ20 موظفاً. وهي على ذلك تحاسب على المخالفات الادارية، مثل أصول عقد الجلسات وادارة البلدية. أو المخالفات المالية مثل عدم جباية الرسوم والواردات أو وجود فواتير ومشاريع وهمية، بالإضافة إلى الجرائم الجزائية مثل اختلاس الأموال، والتي يمكن أن تحال إلى القضاء الجزائي والهيئة في الوقت نفسه.

لكن القانون لا ينص إلا على محاسبة الأعضاء التنفيذيين في البلدية، أي الرئيس ونائبه، وأي عضو آخر يشغل منصب رئيس احدى اللجان، فيما يُعفى الأعضاء المقررون من المحاسبة. وهذا ما يعتبره عبود "نقصاً وعيباً في القانون، فالذي يصوت لصالح قرار كالذي ينفذه". وهذه المشكلة يمكن معاينتها في حالة رئيس المجلس البلدي لمدينة بيروت، إذ إن السلطة التنفيذية في يد محافظ بيروت، وليست عند رئيس بلديتها. واللافت أكثر من ذلك أن رئيس بلدية بيروت هو عضو في هيئة التأديب هذه، بالإضافة إلى مدير المديرية الادارية المشتركة في وزارة الداخلية الياس الخوري. فكيف يمكن أن يُحاسب؟

يعرف عبود "المشكلات" التي تعطّل عمل الهيئة، ولا تجعله كما يتمناه. وهو يقر أن وجود الهيئة وحدها لا يكفي، بل يجب أن "تحصل تعديلات في هذا الجهاز لتحسينه، وفي القوانين الناظمة له أيضاً لتأمين محاسبة ومراقبة أفعل لرؤساء البلديات والعاملين فيها، وعلى وزارة الداخلية أن تعمم عن مهامنا على البلديات والمحافظات". مع ذلك، لا يبدو عبود متفائلاً كثيراً، اذ يبدو له، في زمننا هذا، أن "المحاسبة صارت من الكماليات".