بعلبك: مكتبة الحسيني.. بيتٌ من الكتب

حنين شبشول
الإثنين   2015/04/20
عدد الكتب في مكتبة الحسيني نحو 700 ألف كتاب (حنين شبشول)
ثمانون عاماً في خدمة الكتب والعلم والمعرفة. هكذا يمكن أن تختصر سيرة الراحل عبده مرتضى الحسيني، المعروف في بعلبك بالسيد، الذي قضى حياته كلها في جمع الكتب. ولد الحسيني في تشرين الأول عام 1918، وهو يعد من أبرز شخصيات بعلبك الفكرية والثقافية. فهو بحسب "هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)" صاحب أكبر مكتبة خاصة في الشرق الأوسط. إذ يقدر عدد الكتب في مكتبته بحوالي 700 ألف كتاب. توفي الحسيني في 23 شباط 2007 من دون أن يحقق الحلم الكبير الذي سعى إليه طوال حياته. رحل الرجل التسعيني تاركاً كتباً كثيرة داخل جدران منزله، من دون أن ينجح في تحويلها إلى مكتبة عامة يستفيد منها طالبو المعرفة ويقصدها رواد العلم. 


بدأت قصته مع الكتب في سن السابعة. فبينما كان يمشي في أحد طرق بعلبك وجد على الأرض مجلة قديمة، فأخذها معه إلى البيت. وبعد أن نظفها أضافها إلى مجموعة كتبه المدرسية. ومن هنا اكتشف حبه لجمع الكتب. كانت هذه المجلة الحجر الأساس للمكتبة. ومع الوقت بدأت هوايته في جمع الكتب والمجلات والجرائد تنمو شيئاً فشيئاً. لم يكن من السهل على ولد يتيم الأب أن يصرف المال لشراء الكتب. فاضطر للعمل من أجل كسب المال. كان يقطف المشمش ليبيعه في موسمه، ويجمع الرصاص من ساحة الرماية التي كان يتدرب فيها الجيش الفرنسي، ويلملم المسامير من أمام محال النجارين، أو تلك المرمية على الطرق ليبيعها ويشتري الكتب.

بعد أن أنهى تحصيله الجامعي، أصبح أستاذاً لمواد التاريخ والجغرافيا والأدب العربي، وكان يمنع نفسه عن شراء الثياب والخروج في نزهات، ويخصص جزءاً من أجره لشراء الكتب. حتى أنه في يوم اضطر الى بيع ما ورثه عن والده من بستان وطاحون، واستغل المال لشراء بعض المكتبات، مثل مكتبة جرجي نقولا باز، يوسف صفير، رشيد سنو وغيرهم. وبحسب ابنه جهاد، وهو رسام تشكيلي فإنّ أحد المطارنة عرض على الحسيني شراء مكتبته التي تحوي 600 كتاب بـ600 ليرة لبنانية لأنه كان مسافراً إلى أميركا. لكن هذا المبلغ لم يكن متوفراً لدى الحسيني، فباع قطعة أرض كان يملكها بـ600 ليرة واشترى المكتبة.

خلال حياته، استطاع السيد الحسيني تكوين شبكة واسعة من العلاقات. فقد جمع آلاف الكتب من مصادر متعددة. كان يتصل بمختلف المكتبات العامة والخاصة، ودور النشر، و"المجامع العلمية"، و"اتحادات العلماء"، والكتاب أنفسهم، والصحافيين، والشعراء، والمؤرخين، وغيرهم ممن يمكن أن يكون لديهم منشورات ومؤلفات. وعلى مر السنين، كبرت المكتبة بفعل الشراء والمقايضات والهدايا. كان يفتخر بما صنعه خلال حياته ويصر أن يكبر هذا المشروع ليصبح مكتبة حقيقية يستفيد الناس منها. صحيح أنه دفع أموالاً كثيرة لشراء الكتب، لكن لم تتوفر لديه القدرة المالية لبناء مكتبة تضم كل ما جمعه منها. يقول جهاد ان "إحصاءات أجريت في أيام والده، بينت ان عرض كل كتبه يحتاج الى مكتبة مؤلفة من ثلاث طبقات على الأقل، تحوي 27 غرفة".

وعود لا آخر لها هي كل ما تلقاه الأب ومن بعده الابن، الذي لا يزال يعتني بالمكتبة ويضيف إليها ما استطاع من الكتب. في الماضي كان مستعداً لأن يقدمها مجاناً شرط أن تكون تحت إشرافه. لكن لأسباب عديدة لم ينجح هذا الأمر. يتحدث في إحدى المقابلات عن رفض بعض سكان المدينة لفكرة إنشاء مكتبة تضم كتباً لأحزاب وأفكار عقائدية لا تتناسب مع معتقداتهم، وقد قاموا وقتها بتقديم مذكرة احتجاج الى الرئيس الراحل كميل شمعون. وفعلاً لم تبن المكتبة. ويخبر ابنه أيضاً عن أطراف اشترطت تخليه عن بعض الكتب الدينية والحزبية مقابل انجازهم المشروع، لكنه رفض. وقد كان الحسيني يسارياً، منتمياً إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وترشح إلى الانتخابات النيابية عام 1953، وأعتقل إثر اعلانه لبرنامجه الانتخابي. "لكن فكرة انتمائه الى حزب أو تنظيم ما، لا تبرر تخليه عن قسم من الكتب في مكتبة يُفترض أن تكون عامة وشاملة"، على ما ينقل جهاد عنه. حتى أنه تلقى عروضاً كثيرة لبيع المكتبة وبنائها خارج مدينة بعلبك، لكنه رفض وأصر أن يستفيد أبناء منطقته من مشروع كهذا.

اليوم، تتوزع الكتب بين بيته القديم داخل المدينة وبيت آخر تعيش فيه عائلته. الكتب تأخذ أكثر من ثلث مساحة منزلهم الحالي، وتملأ المنزل الآخر. لا أحد يملك أي سجلات توثق عناوين الكتب أو أنواعها. لكنها تشمل كتباً بالعربية والإنكليزية والفرنسية، بالإضافة إلى لغات أخرى كالفارسية، الألمانية، التركية، البولندية، الإيطالية، الروسية وغيرها. قبل وفاته، كان إيجاد كتاب ما يعتمد على الصدفة والتخمين. أما اليوم فالاعتماد الوحيد على ذاكرة ابنه. يقصده بعض الطلاب والقراء لاستعارة كتاب ما، وأحياناً يأخذ شهراً أو أكثر لإيجاده، هذا إذا وجده.