سلطة البوح
هكذا، يبدو البوح تجاوزياً وجريئاً. لكن جرأته، في هذا السياق، ليست واحدة. اذ تظهر شيئاً لتخفي شيئاً آخر. وهذه جرأة أيضاً، لكنّها متأسّسة على "سلطة الكلام"، كأنها بديل لسلطتي القضية الفلسطينية والشهادة، أو ربما بعد آخر لهما. على أن الكلام لا يكتسب نفوذه وأثره مما يحتويه أو يقوله، بل من قائله أو فاعله، كحامل لرساميل متعددة ومتدرجة، على ما يعتقد بيير بورديو. وهذا، في قراءة أخرى لـ"ألاقي زيك.."، قراءة لما قبل المسرحة وما بعدها، لا للعرض نفسه في زمنه المحدود.
يقترح أحمد بيضون، في مقاليه عن المسرحية "ألاقي زيك فين يا علي؟" و"الشهيد والشخص"، "اللعب" كمدخل لقراءة المسرحية وما تمثله. اذ ان إبداعَ طه "إنما يتمثّل، في شطر جسيم منه، في كشف اللعب الذي ينطوي عليه هذا النوع من الأدوار من أقصاه إلى أقصاه وفي كشف ما يتخلل اللعب من غشٍّ في اللعب أيضاً". فطه، على ما يقترح بيضون أيضاً، "تتنزّه في أدائها بين شِعاب هذا الصدع الذي يشطرها بما هي "ابنة الشهيد" بين مزدوجتين، من جهة، وابنة علي طه، بلا مزدوجتين من الجهة الأخرى. فهاتان صفتان تكادان أن تكونا نفسين لشخصٍ يلبثُ واحداً". لكن هذا اللعب لا يقوم بنفسه، بل يركن إلى ما هو أبعد منه، أي الى سلطة ما تجيز اللعب وتتيحه، كأن تكون واحدة من هاتين الصفتين، في سرديتها المتعددة، "مشرعنة" لأخرى. واللعب نفسه، بدوره، يتيح قراءتين مختلفتين -وربما متناقضتين- أو أكثر، لما تريد أن تقوله المسرحية، كما في قراءتي الياس خوري في "عودة الفدائيين" ورشا الأطرش في "عن قضية ينقصها الضحك".
والحال أن هذه القراءة تجرب أن تسأل عن سلطة ما تتيح لطه، في تنقلها بين الشخصي والعام، أن تبوح بما باحت به، أو عرضته بأسلوب اللعب، المشار اليه في ما سبق. وهذا ما يحيل، بالضرورة، إلى الاجتماع وعلاقاته وتدرجه، في العموم، واجتماع الشهداء وأهلهم في مرحلة تالية. ذلك ان النظام المُنتقد في تحايله على حادثة الاغتصاب، في افتتاح النص المسرحي، هو نفسه الذي يمنح، تأويلياً، سلطة البوح نفسها، اذ يموضع فاعلُ البوح هذا في مكانة لا يتيحها لغيره، ضمن الاجتماعين العام والخاص (جموع الشهداء وأهلهم)، كما في آليتي الاصطفاء والاقصاء الممارسين اجتماعياً. على ان فاعل البوح، في أثر موضعته المكتسبة اجتماعياً أيضاً، يعيد انتاج سلطته، بما هي، أساساً، تحايل على صور السلطة، كما في شرعية السلطات الحكومية وقوانينها. فجبرية الأدوات الرسمية (الضبط مثلاً) لا تمارس كجبر، بل كمصلحة عامة.
لا تُحمَّل المسرحية أكثر مما تطرحه على نفسها، باعتبارها تَمثُّلاً لتجربة شخصية. لكنها، في شخصانيتها هذه، تؤدي دوراً ملتبساً، في البوح كما في الاخفاء. ذلك ان أبناء الشهداء، أنفسهم، ليسوا واحداً أيضاً، لا في مكانتهم ولا في نفوذهم (علاقاتهم).. أو أقله في حظوظهم.