الإثنين 2015/02/23

آخر تحديث: 14:45 (بيروت)

عن قضية ينقصها الضحك

الإثنين 2015/02/23
عن قضية ينقصها الضحك
قلّدت رائدة طه نفسها عندما كانت طفلة تؤدي رقصة نمطية ببارودة خشبية في حفلات أبناء الشهداء الفلسطينيين (المدن)
increase حجم الخط decrease

لحظةُ دخول مسرح "بابل"، ليلة السبت الماضي، بدت حمّالة أوجه، بل مدججة بالتشكيك:
هنا قصاصات من صحف قديمة، مثبتة على جدران البهو المُفضي إلى باب المسرح، في هيئة معرض صغير يمهّد للعرض المسرحي الذي سيبدأ بعد دقائق: "ألاقي زيك فين يا علي".

"فلسطين، تل أبيب، فدائي، عملية، اختطاف طائرة، شهداء".. كلمات لم تبدُ مغرية بالتفحص من قرب، لقراءة سطور إضافية، أو التمعن في الصور العتيقة المصاحبة لها. ليس الحق على الكلمات، ولا معانيها، ولا المتلقي.. بل على "صنّاع" ذلك كله، في الإعلام والسياسة والثقافة. هنا آليات ملل مزمن. تُحرِّك، أو بالأحرى، تجمِّد التفاعل مع ذلك التمهيد، رغم التفاؤل الكامن بمسرحية كتبت نَصّ مونولوغها، رائدة طه، وهي أيضاً الممثلة، وتخرجها لينا أبيض.

لكن، مَن ذا يُلام على ضجر من "أيقنة" الكفاح المسلّح، والاستشهاد كـ"فن للفن"، و"المقاومة" مجرّدةً من نوازع مَن يفترض أنهم ناسها (إلا في صُور الملصقات ومانشيتات الصحف)؟ مَن يُلام على التوجس من "خطاب" مهيمن على النتاج الثقافي المتعلق بفلسطين، لولا استثناءات تجرأ أصحابها على كسر محرّمات القضية/المأساة؟ كلمات وأفكار، كان قصيراً عمرها الحقيقي، المتناسب وزمنها وشروطه و"موضته"، وسرعان ما سلكت منحى المزايدة على الفلسطينيين أنفسهم، واستغلال قضيتهم وموتهم وحيواتهم المعلقة في ندب مطلق، وفي زواريب محلية/دولية وطائفية منفّرة. مأساة مثبّتة في المأساة، بلا أسئلة ولا مراجعة ولا استشراف، هي مأساة لا تاريخية. الكل ساهم. والبعض تعمّد، وبخبث، حَشْر "القضية" حشراً، سياسةً وفناً، في سياقاتٍ وهميةِ الارتباط بنصرة التحرر... "ولا يصوت يعلو فوق صوت المعركة"، المعركة التي لا يُسمح لها بأن تنتهي، ولو حتى كمحاولة. ومَن ذا يلام على الضيق بتمجيد الدم والموت، وفناء السياسة التي التهمتها ايديولوجات قومية وعروبية ويسارية، ثم فئوية؟.. واليوم، أكثر من ماضٍ عمره أربعين عاماً.

لكن القلق لا يلبث أن يتبخر بعد دقائق من ظهور رائدة طه على المسرح.
هنا الفرد يُبعث من ذاكرته. يرتفع من ذاته بذاته. الحميمُ حكايةٌ للعموم. الشخصيّ اعتراف، يعني كل متلقٍّ، ولا شرط للانسياق الحتمي في مسارب هذه الحكواتية الفلسطينية، سوى أن تكون بشراً، مكتمل النواقص والتناقضات.. بقضية أو من دونها.

ثمة ما يدهش، وينفذ إلى العقل والقلب معاً، في امرأة، هي ابنة "الفدائي" علي طه – شهيد 1972، تروي أرشيفها، بحقيقية مذهلة، لا ادعاء فيها ولا ضخّ... وأرشيف أمها وأخواتها وأبيها ورفاقه، كأناسٍ. معاً، وكلّ على حدة. وليس صدفة طغيان الشخصيات النسائية، إذ هكذا تكون المجتمعات حين يستوجب عدد الشهداء إنشاء مؤسسات لعائلاتهم.

تسرد رائدة "الصغائر" كما يجدر بصاحبها أن يرويها في سهرة بيتية، لأصدقاء وأحباء وأهل، صاروا فجأة جمهوراً. تفرد للتفاصيل حيزها الفني المُستَحَق، لرائدة طه، كشخص كامل المحدودية، كممارسة عادية لفرط فردانيتها، فتمسي كذلك لسامعيها أيضاً.

لكن هذا ليس كل شيء. السرّ في مكان آخر. سرّ نجاح رائدة في أَسرِنا هكذا هو الضحك.
قضايانا بحاجة إلى ضحك، وضحك كثير. من ذواتنا، ومن ظلم يطاولنا في آن واحد. من تجاربنا وخسائرنا. من بطولاتنا وهزائمنا، أصغرها وأكبرها. ثمة تجارب بين المكرسين، مثل إميل حبيبي ثم إيليا سليمان، لكنها لم تتكرس كخط فني. وثمة تجارب شبابية، في "يوتيوب" مثلاً، لكنها ما زالت خجولة، لم تتبلور، ومحاصرة بـ"الحرس القديم".

ورغم استعادة رائدة للحظات دامعة، كاليوم الذي حمل خبر سقوط علي طه. أو يوم تحققت أخته سهيلة من جثته التي تسلمتها مثلجة بعد سنتين، متأكدةً من عينيه وأسنانه، وما عادت لتأكل من بعده أي طعام مثلّج. أو يوم تعرضت رائدة نفسها – الشابة العاملة في مكتب ياسر عرفات في ثمانينات القرن الماضي – لتحرش جنسي من أحد "الأخوة الثوريين".. رغم سردها لحظات موجعة من هذا النوع، لا تنأى رائدة طه بذكرياتها الخاصة عن الكوميديا، ذكريات باتت الآن عامة إذ أنسنها الضحك في الأساس: الرقصة النمطية لطفلة فلسطينية، بالبارودة الخشبية، في حفلات حول العالم، مُمثلةً فلسطين وأبناء الشهداء. صديقتها التي تحسدها، والتي كان أول ما أسرّت لها به، يوم استشهاد والدها، هو سعادتها البريئة بأنها صارت مخولة السفر مع رائدة وأختها لتمثيل أبناء الشهداء، مُماثلة نكتة الولد الذي قتل والديه ليتمكن من الانضمام الى رحلة للأيتام. أمها فتحية إذ تنبري لصدّ "شهامة" رفاق الشهيد، المنبرين إلى "مؤازرة" أرملة يصعب عليهم الجزم بلون عينيها، في خضمّ حديثهم عن قضية لا تموت وشهيد يجب إكمال مسيرته. عمتها التي أصرّت على لقاء كسينجر في القدس لتطالبه بجثة أخيها، بعدما سئمت من المراسلات عبر الصليب الأحمر، فلحقت به إلى الفندق، وحاصرته في الممر بين الغرف: "يا كيسنجر!.. تعال!.. كلهم بيعرفوا عربي يا عمتي، كلهم جواسيس!"، فحالفها الحظ ولُبّي طلبها، كما يحصل غالباً مع نساء بسيطات تحركهن فطرتهن وإحساسهن الأوليّ بحقهنّ، فيستقوين بفائض أمومتهن التي لا يملكن سواها، ولا مَن ينجو من سلطتهن.. ولو كان كيسنجر!

هذا كله، وأكثر، بلهجات القدس والخليل وغيرها من مناطق فلسطين. بحركات كل شخصية، وخصوصيتها الجسدية والشعورية (رغم ثغرات أدائية وإخراجية ليست موضوع هذه السطور). هذه التي تفتقد أخيها وتقول لرجال العائلة: تنحوا بشواربكم جانباً فإنكم لا تنجزون شيئاً. وتلك التي تحنّ إلى حبيب تزوجته ثماني سنوات، وعاشت كأرملته لعقود طويلة، وقد استفاقت من نومها قبل قليل منزعجة، إذ حلمت بأنه تزوج عليها. والطفلة رائدة التي غارت من أولاد شهداء آخرين يصحبهم "عمّو" – صديق العائلة، في مشاوير اللعب والبوظة، فخاصمته، وزادت الخصومة بأساً حينما تزوج "العمّو" وأنجب. أو حتى صديقة الوالدة، التي أصرت على الذهاب لتعزية جورجينا رزق إثر مقتل زوجها (الفلسطيني أبو حسن سلامة)، لترى مَن منهن تبدو أجمل في سواد الحداد!

هو ضحك يولد من قلب المأساة. لأنه الحياة، والطبيعي. ضحك بسبب المأساة حيناً، وبأثر من ثقافة المجتمع المصاب بها أحياناً. هنا الفن. في الشارع والبيوت، موجود. النكتة الشعبية السورية على "البعث"، وديناميات المجتمع في ظله، منتشرة منذ عقود، لكن السلطة نجحت في "تنظيم" إتاحتها في الانتاج الثقافي السوري قبل الثورة، لتحصرها مثلاً في محمد الماغوط وقلائل آخرين. في حين لم تأتِ الثورة بكوميدياها الفعلية بعد، كوميديا الذات قبل غريمها الحاكم. مخيمات اللجوء الفلسطيني تزخر بالسخرية الذاتية، لكنها ضحكات لا تجد سبيلها بسهولة إلى خشبة مسرح أو شاشة سينما أو حتى أغنية. حتى في لبنان.. أذكر امرأة جنوبية قالت أمام أحد الصحافيين خلال حرب تموز 2006، التي زعم "حزب الله" أنه خاضها لتحرير الأسرى: "شو بدي قول؟ انشاالله تكوني مبسوطة يا أم سمير (القنطار)!".. هل نرى مثل هذه العبارة في إنتاج ثقافي جاد؟ وبعد العنف في الشارع إثر اسكتش متلفز تناول حسن نصر الله؟ 

الضحك مدخل النقد الأعمق، سبيله الأصدق. هو "الأصالة" الأصح. أصالة بشر، لا مناضلين. الفرد، لا الأرض. منمنمات التجارب، لا شواهد المصائر. أصالة مَن يعيش حين لا يموت، لا مَن يخلُد في الشِّعار.

لعله ليس بلا دلالة أن فلسطين، ومن بعدها سوريا، هما "القضيتان" الأعوز، سردياً، إلى الضحك... وهما الأكثر تضرجاً بالدماء، والأعنف على أهلهما وجوارهما. ليس في افتقارهما للضحك، التفسير الوحيد لمأساويتهما وأثرهما الطاغي. لكنه فقر أساس، نساهم جميعاً في تفاقمه، مُحنّطين حكاياته، مثل قتلاه.. إذ، كما في السياسة و"الثورة"، الاحتلال والاستبداد... كذلك في الذاكرة حين تنفي الوجدان الأم الذي يضحك بقدر ما يبكي.         
 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها