مهن البحر في صيدا: وراثة السعادة والشقاء

رنيم البزري
الثلاثاء   2014/09/02
تشهد المهن البحرية تراجعاً في إنتاجيتها ومردودها بسبب ضعف الثروة البحرية (علي علوش)

لازمت مهنة الصيد  الصيداويين منذ زمن طويل، وقد توارثتها الأجيال كتقليد أساسي في حياتها. اذ أن موقع صيدا البحري فرض على سكانها أنماطا مهنية معينة ليعتاشوا منها. لم يعلم جمال البلباسي أن هذه المهنة ستكون مهنته التي سيرثها ويورثها إلى ابنه. "لم أكن من عُشاق الصيد بل كنت آمل أن يكون لدي محمصة بزورات وقد عملت في هذا المجال لفترة قصيرة، لكن والدي بحارا وكان رجلا كبيرا وبحاجة إلى من يعينه، خصوصا أنني أكبر اخوتي". وهذه الحسرة الواضحة، لا تلغي سعي جمال لاستمرار حضور هذه المهنة في أسرته. "فكما ورثتها عن أجدادي، أسعى لأورثها لابني الذي بلغ الـ15 عاماً، اذ أننا نخرج سوياً الساعة الواحدة بعد منتصف الليل لرمي الشباك ونعود مع طلوع الشمس لازالتها".


الورثة

يتفق أحمد البيضاوي ومحمد القرص على أن الصيد هي المهنة المثلى بالنسبة إليهما. يقول البيضاوي: "كنت أذهب يومي الجمعة والأحد مع والدي إلى الصيد في الثالثة فجراً لنعود في التاسعة صباحا بأنواع وأشكال مختلفة من الأسماك، فتعلمت المهنة وأصبح لدي فلوكة خاصة. وأنا اليوم أخرج وحدي". أما القرص فقد امتهن الصيد منذ كان في عمر التسع سنوات. "كنت أهرب من المدرسة لأذهب الى البحر. أحببت هذه المهنة وحملتها عن والدي وأجدادي. وهي المهنة التي تؤمن لي معيشتي. فقد أعانتني على شراء سيارة رانج وبيت وفلوكة خاصة بي. كل هذا من عملي في البحر. أي أن هذه المهنة تؤمن لي معيشة لا يستطيع الكثير من الشباب في عمري أن يؤمنوها".

لكن لا يبدو حمزة، الذي يملك 9 سنوات خبرة بحرية، مرتاحاً مثل زميليه. "لم أعد أرى في البحر ما كنت آراه سابقاً. لذا لن أكمل حياتي في هذه المهنة. أعمل في البحر على سبيل النقاهة فقط، لكنني سأبحث عن عمل آخر خارج البحر. أي شيء. سأهجر البحر الى الأبد".

يقول حمزة: "تأثرنا كثيراً بالسنسول الذي شُيد مقابل جبل النفايات. وباقامة هذا السنسول، الذي يضم منطقة الوحلة أي المنطقة التي تتربى فيها الأسماك، اختنقت الأسماك في داخل السنسول حتى رأينا أسماك البوري عائمة على سطح البحر. ولم يُعوض علينا كما وعدونا. وكان يمكن اعتماد أسلوب بديل، فلا يغلقون السنسول قبل رمي بعض كسر الحجارة، فتهرب الأسماك شيئاً فشيئاً من الداخل، ثم يتم اغلاقه من دون التسبب بكارثة بيئية". لا تتعلق أسباب تراجع المهنة بما جرى للسنسول فحسب، "كذلك تتسبب الجاروفة، وهي شباك صغيرة، بتقليص الثروة السمكية، فهي تتميز بضيق فتحاتها، بالتالي تلتقط جميع أنواع الأسماك الصغيرة والكبيرة وبيض السمك، مما يقضي على احتمال تكاثرها. وهذا ما يُعيق تطوّر المهنة ويسبب شحاً في الثروة السمكية في السنوات المقبلة"، يقول البيضاوي.

ويؤكد بلباسي أن "كمية الأسماك في الماضي كانت أكثر من اليوم، أي أننا صرنا نحتاج لمضاعفة الجهد الذي كنا نبذله في الماضي للحصول على كيلوغرام من السلطان ابراهيم، في حين كنا نحصل على 10 كيلوغرامات منه بسهولة". على الرغم من هذا الواقع الا أن القرص لا يبدو يائسا، بل ان امتنانه وحماسته لمهنته يتخطيان كل ما يجري من حوله. "ما يؤثر على شح الأسماك اليوم هو التغير المناخي. اذ اننا لم نشهد شتاءاً عاصفاً هذه السنة، كما أننا لا نجد رياحاً شمالية لتساعد الأسماك على الخروج من وحلتها (بيتها) ومستقرها في الداخل، ولتقلب البحر لتأتي أنواع جديدة من الأسماك، من مصر وفلسطين المحتلة".


أسماك أم سموم
يقول القرص: "تعرف الأسماك مواقعها من خلال ضغط المياه، فكل نوع منها يعيش في ضغط مياه خاص به. لذلك لا نجد أسماك القرش في محيطنا اذ أنها تعيش في عمق حدوده 600 متر وما فوق. أما على عمق 300 متر فنجد المبحلق، الدكر، جربيدة، كلاب البحر وغيرها".

لكن لهذه الأسماك منافساتها من الأسماك السامة، "وأشهرها (النفيخة) التى رماها العدو الصهيوني في بحرنا خلال حرب تموز، وهي نوع سام من السمك ليس له موسم معين. كما أنها تقطع الشباك وتعطل عمل الصيادين"، يقول البيضاوي هذه الرواية، ويؤكد غيره من الصيادين صحتها.


مهن أخرى
يتفرع عن مهنة الصيد مهن أخرى مختلفة، كاعداد الشباك. "كان تصنيع الشباك مهنة مستقلة خصوصاً في الماضي حيث كانت النسوة تعملن في البيوت لاعدادها لمساعدة عائلاتهن، وقد كانت والدتي واحدة منهن"، يقول بلباسي. ويقول صياد آخر: "نحن من يقوم باعداد الشباك لتصبح صالحة للصيد، وهي ذات أنواع مختلفة مثل البرشتك المصنوع من خيطان الحرير، والتي تستخدم على عمق يتراوح بين 350 الى 400 متر، لاستخراج القريدس والبحالق بشكل خاص. أما الشباك الاسباني فيستخدم للدكر الجربيدي والملّيئة. وتختلف كلفة كل قطعة من هذه الشباك. اذ قد تصل كلفتها الى 4 ملايين ليرة، وذلك بحسب حجمها ونوعها".

مثل الصيد تُورث صناعة المراكب أو "الفلوكة" أيضاً. يقول ناصر العقاد: "عملت في النجارة منذ 40 عاماً. وأنا متخصص في صناعة نوعين من مراكب الصيد، هما اللانشات والبطنية. لكن اللانشات أكثر ثباتا من المبطنة. أما السعر فيُحدد بحسب حجم المركب، اذ أن مركب بطول تسعة أمتار يحتاج الى ثلاث أشهر من العمل". ويضيف: "لقد تطوّرت هذه المهنة مثل العديد من المهن الأخرى، اذ أصبح لدينا معدات حديثة مثل فارة الكهرباء وغيرها مما سهل عملنا، بعدما كانت المراكب تُصنع يدوياً".

على أن وضع هذه المهن لا ينفصل عن وضع مهنة الصيد، وهي محور عملهم، والتي تشهد تراجعاً ملحوظاً. يقول العقاد: "لم يعد الطلب على المراكب كما كان سابقا. وهذا يعود الى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي نعيش فيها، والتي تؤثر على عمل الصيادين. كما أن تراجع الثروة السمكية ينعكس بالضرر على الصيادين، وهذا ما ينسحب على عملي. إلا أنني لا أذكر يوماً توقفت فيه عن العمل، فأنا أعمل دائماً في صنع المراكب وصيانتها وتجديدها". وعلى الرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة ومحدودية مستقبل هذه المهنة إلا أن العقاد يصر على توريثها إلى ابنه، آملا في أن "تتحسن الظروف وتلتفت الدولة لمثل هذه المهنة أو الحرفة التي تشكل تراث المدينة".

ولاتمام مهمة الصيد لا بد من الوصول إلى المرحلة الأخيرة، وهي دهان الفلوكة. هذا ما يقوم به محمد بوجة. يقول: "ورثت مهنتي عن والدي وما زلت أمارسها، ليس حبا بمهنة الدهان فحسب، لكن لأن العمل بجوار البحر يسعدني". يضيف: "ان حجم الفلوكة ونوعية الدهان هما العاملان اللذان يحددان كلفتها. فالفلوكة الجديدة بطول سبعة أمتار تكل نحو مليون ليرة. لكن عند صيانتها تقل الكلفة لأن أساس الدهان موجود. وأهمية عملنا تنبع من حاجة الفلوكة للخروج من المياه كل ثلاث إلى أربعة أشهر، وذلك ليتم تنظيفها من الأسفل من الأعشاب التي تلتصق بها، وطلائها بدهان خاص ضد الحشائش، الا أن عملية الصيانة ترتبط بشخصية صاحب المركب ومدى اهتمامه بفلوكته".