الإنتقال بين المكانين: عيد خفيف

عاصم بدر الدين
الإثنين   2014/07/28
العيد في صيدا (أرشيف: عزيز طاهر)


بدا انتقالنا من مكان، مركزي في التقسيم الجغرافي لضيعتنا، إلى آخر طرفي وبعيد، إنتقالاً أيضاً في طرق تفاعلنا مع العيد. وهو ما لم يكن يحتاج منا، نحن الذين شهدنا ثابتين في مكاننا انتقالات مشابهة، في سنوات سابقة، جهداً كثيراً لنتأقلم معه. إذ أن الساحة الفوقا بدأت، قبل سنوات على انتقالنا، تفقد هي أيضاً سطوة نالتها أساساً من وجود جامع فاعل فيها. وهو، الأقدم في ضيعتنا، راح يفرغ ويقل استعماله لصالح جامع آخر فُعل وجُدد في مكان آخر سميناه الساحة، هكذا من دون تحديدات. وصارت تبدو لنا أنها وسط الضيعة وصلة وصلها مع ضيع أخرى.

لم نكن آخر مَن بقي طبعاً. لكننا كنا، في ما نرى أنفسنا واحداً من جماعة، آخر مَن انتقل مِن الناس الذين تربطنا بهم علاقة لعب أو تواصل داخل هذا المحيط. وهذا كان أول قطع في علاقتنا بالعيد. إذ كنا قد اعتدناه بين شلة بعينها، هي عزوتنا وسندنا. وهو لم يكن عندنا غير التقاء مكرر بهم، لكنّه إستثنائي. ذلك أن الأجواء حولنا، في تلك الأيام، كانت أكثر تسامحاً معنا. وبدا لنا، في محاولتنا إصلاح علاقتنا بمن بقي، أننا نخسر شيئاً من قدرتنا على البسط، وقد كنا، في زمن سابق، نكن لهم احتقاراً وعداوة. على أن هذا لم يكن آخر أسباب خفوت العيد بيننا. إذ أن خسارة الساحة الفوقا لمركزها، كان أول خسارات أخرى. هكذا، قضي على مساحة اللعب الوحيدة فيها، وهي أرض مسورة شبه ترابية ومزروعة منذ زمن بأشجار السرو، وتنقسم إلى قسمين تفصل بينهما طريق معبدة، ولقربها من الجامع سميت "حاكورة الجامع". وكنا، في أيامنا المجيدة، قد "استولينا" على قسمها المحاذي لبيوتنا، فيما بقي الجزء الآخر منها لـ"الآخرين" ومن يأتي من ناحيتهم.


الطبقة الجديدة


كنا، حين صُبت الحاكورة بالباطون مع الحفاظ على أشجارها، قد خسرنا آخر مكان لنا، نحن الجماعة التي افترقت. لم يبق لنا شيئاً يُذكر بحيوات تزيد عن عشر سنوات. على أن ما بدا لنا مستفظعاً في حينها وإتقاءاً للغبار على ما قيل وقتها، لم يكن آخر التغييرات. إذ بعد انتقالنا، وانقطاع تواصلنا بمكاننا السابق لسنوات لاحقة، سمعنا أن أشجار السرو قد قُطعت أيضاً. وحُولت المساحة الفارغة الجديدة إلى موقف للسيارات. لم تكن، في أيامنا، المنطقة في حاجة إلى مساحة مخصصة لوقوف السيارات. وكنا، في حينها، نرى أهلنا وجيراننا يركنون سيارتهم، الوحيدة، في مكان مخصص لها قرب كل البيت. ومشهد آخر النهار، في هندسة وقوف السيارات، بدا كأنه دائماً هو نفسه. وهذا ما يبدو لي، الآن، أن جارنا في بيته المواجه لبيتنا قد بدأ بتجاوزه. ذلك أن زوجته امتلكت أيضاً سيارة. وكنا، في ترحرحه المادي المفاجئ، لا نعرف أي سيارة منهما كانت لـ"الحزب"، على ما كنا نسمع في تبرير امتلاكه لسيارتين في حينها، وهذا ما لم يكن سائداً بيننا. وهذه كانت ملاحظة أولى في بروز الطبقة الجديدة.


إنتقلنا إلى آخر الضيعة. كأنه إنتقام ممن سبقنا. لم يعد لنا أن نفكر ماذا يمكننا أن نفعل في أيام العيد والعطل. وبدا أن انتقالنا كأسرة، داخل عائلة ممتدة، قد أفقدنا مركزية حصّلناها من سكننا السابق في بيت جدتنا، التي انتقلت، هي الأخرى، معنا إلى البيت الجديد. وكأن زوارنا السابقون، وهم أقارب تحديداً، كانوا يزرون البيت، بمكانته ورمزيته، لا نحن. لم تنقطع الزيارات، لكنها صارت أكثر رسمية ومقتضبة، بما لا يتيح لهم أن يخلعوا إشارباتهم أو أحذيتهم مثلاً ليرتاحوا، ولا يكفينا ليزيل خجل تعاملنا مع أولادهم.



لا أعرف كيف تقبل أهلنا هذا الدور الثانوي المستجد. لكنّهم، وكنا قد بدأنا نكبر، غيروا، في أول التغيرات ظهوراً، طقوس العيد الموجهة نحونا. ما عدنا مجبرين، قبل العيد بأيام، إلى الذهاب برفقة أمي إلى النبطية لشراء ثياب جديدة، أو ثياب العيد. وهذا ما بدا طبيعياً في حالتي، وميلي المتزايد للبقاء في البيت. والثياب الجديدة، لا تكون ثيابا ولا جديدة إن لم يرها أحد. وصرنا، نحن وأهلنا، متخففين من ثقل العلاقات الاجتماعية ورسميتها، نستقبل الزوار، الذين راحوا يقلون سنة بعد أخرى، بما وجدنا عليه، ثياباً وهيئة، حين وصولهم إلى بيتنا البعيد، تاركين لهم وحدهم تحمل عبء زياراتهم الرسمية لنا.