أمهات يحببن أمومتهن ليلاً

عزة طويل
الجمعة   2022/05/20
"ثمة أوقاتٌ أكره فيها أمومتي"، تقول امرأةٌ، فأخرى، فيتعالى التصفيق الإلكتروني وغير الإلكتروني، وتشعر سيداتٌ كثيراتٌ بأن ثمة من يعبّر عنهن أخيراً. نعم ثمة أوقاتٌ أكره فيها أمومتي، مثلي في ذلك مثل أي امرأة أخرى، وأي رجل، وأي قطة ربما، وأي لبوةٍ حتى. لذا أستغرب كثيراً أن تجد النساء صعوبةً في الاعتراف بأمرٍ كهذا. حتى إنني أجزم، بكل ما أوتيتُ من ثباتٍ وقدرةٍ على الجزم، أنه لا امرأة تحبّ أمومتها طوال الوقت.

الأطفال كائناتٌ مزعجة أحياناً، حتى إن البعض يذهب إلى حدّ تسميتهم بـ"الطفيليّات". فهم يتغذّون على حليب أمهاتهم، ثم على طبخهن أو على الديليفري الذي يطلبنه، وهذا عملٌ لا يُستهان به أيضاً، أن تضطرّ المرأة إلى اختيار طعامٍ من لوائح طويلة مرّتين في اليوم مثلاً، مراعيةً، قدر الإمكان، تنويع الغذاء واختيار الأقلّ ضرراً من بين الأطعمة المعروضة، مع مراعاة ما يحبّه الطفل في الآن نفسه. يتغذّى الأطفال أيضاً على حبّ الأمّ والأب، ويكبرون بمساعدة خدماتهما. كما أن الأطفال مصدر قلق لأيّ شخصٍ عاقل، إن فعلوا شيئاً أم لم يفعلوا، لأننا ندرك أننا كبشرٍ/أهلٍ غير قادرين على التحكّم في مجرى الحياة، ونعلم أن ثمة حدوداً لقدرتنا على حماية أولادنا. وهذا القلق يصيب الأم والأب، ويتغلغل فيهما معاً. فقد خلصت دراسة بريطانية مثلاً إلى أن الآباء يصابون باكتئاب ما بعد الولادة أيضاً، ومعظم هؤلاء لا يفارقهم الاكتئاب إلى أن يبلغ الطفل سنّ الرشد ويغادر منزل أهله، وذلك بسبب ثقل الشعور بالمسؤولية على كواهلهم.

لكن كلّ الدراسات لا تهمّ، فالمهمّ أن ثمة أوقاتاً أكره فيها أمومتي، بل إن ثمة أوقاتاً أكره فيها نفسي حتى، مثلي في ذلك مثل أيّ كائنٍ حيّ. وثمة أوقاتٌ أشعر خلالها أنني أحبّ أمومتي، بل أعشقها. ولا يعنيني كمّ الدراسات والمقالات والنصوص التي تتناول ذلك، بمعنى أنني لا أنتظرها كي تؤكّد لي مشاعري. تماماً كما لا تعنيني تلك النصوص والمنشورات والأمثال والاقتباسات التي تجعل من الأم بطلة خارقة حارقة مطبّلة مجلجلة. ثمة مواقف بطوليّةٌ تحرزها الأمّهات، بعضهنّ أو الكثيرات منهنّ ربما. وثمة مواقف مدمّرة طبعاً. والأم نفسها قد تكون في تأثيرها، بطلةً حيناً، وإبليساً حيناً آخر، علماً أن الشرّ ليس بالضرورة ما يحرّكها في أبلستها بل مشاعر مكبوتة يبدو أن أمّهاتٍ كثيراتٍ ما زلن غير قادراتٍ على البَوح بها. ثمة أيضاً اكتئابٌ وهورموناتٌ تتلاعب بنا يمنةً ويسرةً وصعوداً وسقوطاً، خلال الحَمل وبعده، وثمة ظروفٌ كثيرةٌ تدخل في المعادلة، أهمّها قاطبةً علاقة المرأة الأمّ مع نفسها ومع الطفلة التي كانتها ذات يوم، وعلاقتها مع زوجها.

ثمّ إن أيّ تعميمٍ يشيطن الأمّ، أو يمجّدها بطلةً بالضرورة، هو تعميمٌ غير ممكن، بعكس التعميم القائل بأن جميع الأطفال مزعجين أحياناً. الأمر في منتهى البساطة، فالخَلق جعل للأطفال، مثلاً، صوتاً صارخاً يخرق الآذان، فيُجبر السامع على التحرّك لأنه يفقد القدرة على التحمّل، وهذه آليّة دفاعيّة يولد بها الطفل، سواء أراد ذلك أم لم يرده. وتُثبت هذه الآلية نجاعتها، كلّ مرّة، فيتمسّك بها الطفل لسنواتٍ وسنوات من الإزعاج الصوتيّ المستمرّ. دفاع الأطفال عن أنفسهم يحدث عبر الصراخ المزعج، لذا فهم جميعاً في ذلك مزعجين، ما عدا الأطفال البُكم الذين يغدقون على أهلهم قلقاً من نوعٍ آخر.

كلّ يومٍ يأتي اللّيل، وأحتضن طفليّ وأخبرهما كم أحبّهما. كلّ ليلةٍ أتحوّل إلى أميرةٍ بلا حذاءٍ بلّوريّ، ممدّدةٍ في السرير إلى جانب صغيرين أداعب جلدهما الناعم وأغرق في موجةٍ من الحبّ. يجلب الليل المزيد من الحبّ، لأنه يتيح لي سماع صوتي الداخلي. هدنةٌ من معارك النهار المُستعرة: من شجاراتهما، وصراخهما، ومناداتهما الأبدية لي، ومن معاركي مع نفسي ومع محيطي وأناسي إلخ. ذلك أن الأمهات لا يعشن خارج الحياة، كما أننا لسنا محصّناتٍ داخل أسوارٍ تحرق المشاعر السلبية ولا يدخلها سوى الحبّ. قلعة الأمّ مدجّجةٌ بالآلام، لأن مَدافعَها تنقلب عليها فتصيبها قبل أن تصيب غيرها. والألم الأكبر يصيب تلك التي لا تحبّ نفسها بما يكفي، علماً أنني لا أعرف ما هو القدر "الكافي" من حبّ الذات.

لكأنني ليلاً أحبّ نفسي أكثر… لكأنّ أمّي كانت تحبّني أكثر ليلاً… لكن ربط الحبّ بوقتٍ محدّدٍ من النهار ليس أمراً دقيقاً من قِبَلي.

إذن، كثُرت الكتابات عن الأمومة وكرهها، على مستوى العالم قاطبةً. قد تكون الدراسة الأكاديمية المعنونة: "الندم على الأمومة" التي أجرتها العام 2015 الباحثة في علم الاجتماع، أورنا دوناث، هي التي أطلقت شرارة اعترافات الآلاف بل الملايين من النساء، بندمهنّ على إنجابهنّ أطفالاً. فلنقُل على الأقلّ، أنها كانت شرارة الاعتراف العلنيّ في دوائر النشر الأكاديمي والتجاري والصحافة والإعلام، ذلك أن شعوراً كهذا لا يمكن أن يُكبَت طوال هذه السنين من دون أن تكون امرأةٌ واحدةٌ على الأقلّ قد تجرّأت على المجاهرة به. ومُذ نُشرت هذه الدراسة التي تحوّلت لاحقاً إلى كتابٍ بالعنوان نفسه، توالت الدراسات والمقالات والنصوص والاعترافات المكتوبة والمنشورة في وسائل الإعلام التقليدية والإلكترونية، بتسهيلٍ من وسائل التواصل الاجتماعي، ووصلت إلى أقطاب العالم.

ورغم أن هذه الكتابات ضروريّة، لا سيما في ظلّ الهيمنة الشاملة، طوال قرون، للكتابات التي تقدّس الأمومة على حساب الأمّ، وعلماً أن عدد الكتابات المناهضة للأمومة لم يتعدَّ أو يساوِ بعد عدد تلك المطبِّلة للأمومة، بات/ت الناظر/ة والقارئ/ة أمام معسكرَين يستقطبان كلّ الاهتمام، معسكر تقديس الأمومة ومعسكر كُرهها. فإمّا التضحية وإمّا الذنب. شرّان مُطبقان، مؤنّثٌ ومذكّرٌ، ثالثهما الندم لا محالة. أما الندم، فهو "حيال الأمومة وليس حيال الأطفال أنفسهم"، في تفسيرٍ لا أعتقد أن أيّ طفلٍ في كوكب الأرض يفهمه، لأن الأطفال، وإن كانوا مزعجين أحياناً، إلا أنهم أيضاً أصحاب فطنةٍ عالية تغلب في بعض الأوقات فطنةَ البالغين.

تقول أمٌّ، في إحدى مجموعات فايسبوك التي تستقطب عدداً لا بأس به من الأمّهات "النادمات" من أنحاء العالم: "مشكلتي أنني أكره كلّ شيء. أكره أنني أهب حياتي لأجعل حياتها أفضل. أكره أنها لا ترى ما أفعله من أجلها… أكره تأثير إنجابي أطفالاً في صحتي النفسية". تعلّق أمّ أخرى على المنشور ذاته، متسائلةً: "من يحبّ أساساً أن يكون أماً (أو أباً)؟ كلّ ما نفعله هو خدمتهم. من أراد الإنجاب عليه أن يكون رعائياً بالفطرة، وأن يستمتع بالطبخ وبالتنظيف. هذا كلّ ما في الأمر. وأنا أحبّ ذلك".

آراءٌ ومشاعر لا يحقّ لأحد أن يطالب أُمّاً بكبتها، ذلك أن التحرّر من ثقل هذه المشاعر لا يحدث إلّا عبر الكلام. وهذا الكلام يصبح أكثر فاعلية في التخفيف من حدّة المشاعرَ السلبيةٍ وتأثيرها، كالكُره، على ما عبّرت مثلاً تلك الأمّ في فايسبوك، عبر ترداد فعل "أكره.. أكره.. أكره"، من خلال تبادله مع شخصٍ قادرٍ على فَهم أبعاده (مع العلم أن معرفة المرء أنه ليس وحيداً في ما يعتريه هو شعورٌ مريح لكنّه لا يأتي بأيّ حلول مجزية). فالكره شعورٌ سلبيّ إذا لازم المرء، بغضّ النظر عن كَونه أمّاً أو أباً أو جاراً حتى، وبغضّ النظر عن موضوع هذا الكره. والحلّ ليس بالطبع بأن تكون الأمّ مولودةً بجيناتٍ رعائيةٍ، ولا أن تكون من مُحبّات التنظيف والطبخ لتؤدّي دورها الفعلي. فشتّان بين دور الأمّ في حياة أطفالها، وهذه الأمور التي لا تمتّ للأمومة بصِلةٍ وثيقة سوى في كتب القراءة أو المطالعة العربية البالية، وعلى ما يبدو في بعض أوساط وسائل التواصل الاجتماعي، من مثل المجموعة العالمية إيّاها.

وكم من أمٍّ رزحت تحت ثقل مجتمعٍ (متمثّلٍ في الزوج أيضاً) يفرض عليها (وهي تقبَل) أدواراً محدّدة بشكلٍ سطحيّ، من دون أن يدخل في عمق ما يحتاجه الطفل وأمّه. وهي أدوارٌ مبنيّةٌ أساساً على ما يناسب الزوج، لناحية قدرته على تأمين كلفة الاستعانة بمن يساعد في هذه المهام، كي تتفرّغ الأم لنفسها وعملها وأولادها من دون أن تشعر بأنها "تهب حياتها لتجعل حياة ابنتها أفضل". ذلك أنها ببساطة غير مُطالبةٍ بهبةٍ كهذه، وعلى كلّ أمّ أن تعي ذلك لتتحرّر وتحرّر ابنتها أو ابنها من هراء تضحيةٍ مماثلةٍ لن تعود على هؤلاء الأطفال بأي فائدةٍ تُذكر.

لستُ من المدافعات عن الأمومة أو الإنجاب، كما أنني لست من كارهات التجربة، ولا من أولئك النادمات. سبق لي أن ارتكبتُ معصية التشاؤم، فنظرتُ مرّاتٍ إلى الوجود كمصدر معاناةٍ قد أجلبها لطفليَّ بمجرّد أنني استقدمتهما إلى الحياة. فالاحتمالات لا متناهية، والألم (الذي ما زلت أعمل على تقبّله) جزءٌ لا يتجزّأ من الحياة، مثله مثل الحزن، والفرح، والموت، والغضب والحبّ … ثمة أمرٌ واحدٌ أدافع عنه، ربما إلى حدّ الشراسة، وهو حقّ كلّ امرأةٍ في الحديث عن مشاعرها كما هي، وحقّها في إجاباتٍ شافيةٍ ووافيةٍ تساعدها على فهم ما يدور في خلدها والتصالح مع نفسها، بعيداً من الطبخ والتنظيف، وبعيداً أيضاً من تكريس التضحية والكره والذنب والندم كأسلوب حياة. فلتندم إحدانا إن أرادت، ولتصرخ بذلك أيضاً إن رغبت، ولتوصل صوتها إلى شعاب الأرض كلّها، على أن تتجرّأ أيضاً على مواجهة نفسها وحاضرها وماضيها والآلام التي عاشتها، وعلى أن تسامح الطفلة التي كانَتها هي يوماً وتضمّد جراحها، هي والطفل/ة الذي/التي أنجبته/ها في ما بعد.

وبين معسكر كره الأمومة من جهة، ومعسكر تقديسها من جهةٍ أخرى، لا بدّ لي أن أتساءل، وإن على سبيل المزاح: أين تقع الأمّهات اللواتي يحببن أمومتهنّ أكثر خلال اللّيل؟