الاكتئاب الأمومي: ما لا نستطيع قوله

صفاء عيّاد
الأحد   2022/03/20

للأمومة ظلٌّ اسمه الخوف. عبارة قرأتها بعد عام ونيف على ولادة ابنتي، وهي، على سهولتها وبساطتها، دقيقة التوصيف، وكانت شرحًا واضحًا، لما حاولت قوله منذ أن علمت بخبر حَملي بـ"يسمى".

كنت أقول دائمًا "إن ابنتي لن تأتي بفرحة"، وهي جملة كانت تصيب من حولي بالجنون فيقولون لي: "معقول راسك؟!"، وأنّ ما أشعر به هو بسبب هرمونات الحَمل، وأني سأتخلّص من هذه الأفكار لحظة أحمل طفلتي بين يدي. بالرغم من كلّ الصعوبات والخوف الذي رافقني خلال الحَمل، كنت أجهّز كل شيء لاستقبال يسمى، وأخصّص وقتًا لحضور ورش عمل مع أطباء اختصاصيين في الحَمل والرضاعة، وأستشير صديقاتي الأمهات في كلّ ما يخطر في بالي. وكان أبي يمازحني قائلاً: "ستنجبين كتاباً، لا طفلة، لكني سأكسر كل قوانينك، فهي حفيدتي الأولى!". وكنت أجيبه بأن يسمى ستكون غير الكلّ، وستتمتع باستقلالية تجعلنا نحن نمشي وفق قوانينها... "ومنذكّر بعض".

ويسمى فعلًا قرّرت أن تكسر القوانين، فكانت طفلة مستعجلة لرؤية الشمس. ولدت في منتصف الشهر الثامن، ضاربة كلّ ترتيبات الولادة التي وضعتها واتفقت عليها مع الكادر الطبي في المستشفى، وأهمها الولادة الطبيعة وتجربة "الجِلْد على الجِلْد" والرضاعة الطبيعية حصراً. كلّ مخططاتي ذهبت سدى، وانحصر تفكيرنا في الخوف من دخولها عناية الأطفال الفائقة أو "الحاضنة"، في حال عانت نقصاً في الأوكسجين، أو مشاكل في القلب أو الرئة. وضعَنا الكادر الطبي آنذاك أمام الاحتمالات كافة. وقررنا، والدها وأنا، أن نخوض التجربة بأقلّ الأجواء توتراَ وقلقاً، وأن نصب تفكيرنا فقط على لحظة نحملُ يسمى بين أيدينا. وطوال المخاض، كان يمازحني بالقول إنّ يسمى، لكثرة ما استمعت إلى أغنيات الثورة وشاركتنا التظاهرات الاحتجاجية والحلقات النقاشية في تشرين الأول 2019، باتت مندفعة للحياة ومتشوقة لمشاركتنا الثورة، والتي كانت أكثر من أمل بالنسبة إلينا.

ولدت يسمى في 11/12/2019، الساعة 13:13 دقيقة، و13 هو رقمي المفضل! ولحظة سمعت صوتها، كنت فقط أبكي وأسأل الأطباء وزوجي: يسمى منيحة؟. لم يسمح لي الكادر الطبي أن أحضنها، أو أشمّ رائحتها، فقط طبعتُ قُبلة على جبينها، وبدأوا بالإجراءات الطبية اللازمة لإدخالها عناية الأطفال.

إلّا أن الخطر الفعلي لم يكن خلال الولادة، بل ما بعد الولادة... قصة نشرتها بشكل مقتضب في صفحتي الخاصة في فايسبوك بعد عام على الولادة، وفي تدوينة نُشرت في "المدن" في عيد الأم العام الماضي. التدوينة التي اعتبرها كُثر شجاعة، فتحت عليَّ حرباً لم تُقفل حتى الساعة. فأول التعليقات جاء من المقرّبين المعتدّين والمتباهين بمستواهم العلمي والثقافي ومكانتهم الاجتماعية. وهم أنفسهم لهم تجارب أزمات نفسية مماثلة في حيواتهم وحياة من حولهم.

أكثر جملة كان صادمة بالنسبة إلي، هي من رسالة سيدة عبر "واتسآب": "أنتِ من البوست تستجدين الشفقة"، مستغربةً كيف أسمح لنفسي بأن أتحدث عن هذه التجربة من دون أيّ اعتبار لوالد يسمى، إذ قالت حرفياً: "كأنه حَبَل بلا دنَس، وفهمك كفاية مش كل الناس بتقرأ حروف، بعرف أنك مريضة". كلامها جعلني أنهار حرفياً، وأنا أحمل طفلتي بين ذراعي. فهي، كما غيرها، لم تقرأ الحروف، ولا ما بينها، يوماً... هذه الكلمات كانت كفيلة بإدخالي في دوامة اكتئاب كبيرة، وجعلتني أخوض حرباً على أصعدة عديدة، بدءاً من العائلة وصولاً إلى المجتمع.

بعدها اعتزلتُ العالم قرابة السنة. تركتُ عملي. لم تعرف سيارتي، خلال هذا العام، سوى عيادة الطبيب النفسي والمعالجين. فمن امرأة لا تهدأ ولم توقف النقاش والعمل خلال حَملها وفي بدايات اكتئابها، إلى امرأة تهرب إلى النوم. كنت أنام مع يسمى في تمام الساعة الثامنة، وأستيقظ في الـ11 صباحاً في اليوم التالي. وتناوب على الاهتمام بيَسمى، كل من والدها الذي كسر بتجربته في الأبوة كل العادات والتقاليد المحيطة به، وأُمي وأختي اللتين كانتا والدتَين ليَسمى، كل على طريقتها... ولولاهما ما كنت وصلت إلى ما أنا عليه الآن.

اللحظة الأصعب في الاكتئاب، والتي كانت تتكرر يومياً، هي لحظة الاسيقاظ من النوم، وأصعب قرار هو قرار النهوض من أجل مواجهة اليوم الممتد كصحراء. ولمواجهة أيام الصحراء، رحت أبحث عن تجارب أمهات مماثلات. للأسف لا تجارب عربية تُذكر، فنحن مجتمعات تتلطى خلاف الجدران، شعوب تصف المرض والأزمات النفسية بالعار! فكان الملاذ في تجارب أجنبية، وبعض المواقع المخصصة للحديث عن معاناة الأمهات المصابات باكتئاب ما بعد الولادة. رحتُ أقرأ، وأقول لنفسي: لستُ الوحيدة.

طوال هذه الفترة، كنتُ قليلة الكلام، لا أخرج سوى مع صديقتي حنان التي لم تملّ يوماً من الاستماع إليّ، واكتسبت 10 كليوغرامات زائدة عن وزني الطبيعي. تبدّل شكل وجهي، وكنت أخاف النظر في المرآة.. كنت أخاف أن أرى ما سألني عنه كل من رآني خلال عام: "هيدي أنتِ؟ ليه هلقد نصحانة؟ وليه هلقة تعبانة؟". وجميعهم كان يعلم بأني أعاني الاكتئاب، إلّا أنهم لم يكونوا سوى متطفلين. كنت أبتسم، تمتلئ عيناي بالدموع، وأهرب..

وفي إحدى الليالي الموجعة، كانت صديقتي منى في القارة الأميركية، على السمع، كما دوماً حين كنت أحتاج للكلام بعد منتصف الليل. بطريقة لطيفة، طلبت مني أن أنقل الأدوية المضادة للاكئتاب الملازمة لسريري إلى غرفة أخرى. وأن أستبدلها بالكتب التي تتحدث عن الأزمات النفسية وعن تجارب مماثلة، وروايات خفيفة على الدماغ، بالإضافة إلى قصص ليسمى أقرأها لها قبل النوم. بدأ نومي الطويل يخفّ تدريجيًا، وكنت أتابع فقط برامج الطبخ، وأشاهد برامجَ كوميدية، وأفلامًا واقعية عن الاكتئاب، إنما من منظور إيجابي، بالإضافة إلى متابعتي العلاج.

قرّرت أن يكون عيد ميلاد يسمى الثاني، نقطة تحول في حياتي، وبدأت أخطّط له. قررت العودة إلى الجامعة ودراسة العلوم الاجتماعية، لأتابع دراسات عليا في مجال علم النفس الاجتماعي، كرّست وقتاً كبيراً للطبخ، وبدأت بممارسة الرياضة.

وفي عيد يسمى الثاني، كتبتُ لها منشوراً، خاطبتها بأني تعثّرت كثيراً خلال هذين العامين، لأقطف لها ولنفسي عمراً لا يشيخ. وشكرتها لأنها جعلتني أنمو بين يديها، لا العكس.. وقلت لها: ما لم أستطع يومها إكماله في الكلام، هو أنك يا صغيرتي كُنتِ أحد أحلامي الصغرى، وكل الخوف الذي رافقني لحظة تكوينك في أحشائي كان حدساً صائباً، ولم يكن من نسج الخيال. وكُنتِ أُمّي الصغيرة، فنحن يا أمي نولد أمهات بالفطرة، لا لحظة الولادة البيولوجية. وكنت يا صغيرتي، بحُبّك للرقص، تقدمين لي علاجاً نفسياً مجانياً. وأنتِ كُنتِ شمسي دون شمسهم، حين كنت لا أقوى على النظر إلى الشمس، وحين كان الاسيتقاظ مشقة كبرى لأشهر... وفي عيد هذا الأم يا صغيرتي سنحتفل على طريقتنا الخاصة ونرقص على أغنيتك المفضلة، "الغزالة رايقة"، فنحن يا ماما من الناس الحلوة السايقة.. والتي لا يليق بها سوى الفرح.

تجربة الاكتئاب هذه، جعلتني أدرك بأن الأمان ليس خلف الجدران، بل في الفضاءات الواسعة التي جمعتني بأشخاص يعانون أزمات مماثلة، وهم كُثر في الفترة الأخيرة. والتجربة علمتني بأنّ الأقربين قد يكونون سبباً للأذى، لا للمعروف. وبأن الردّ على كلمات المُعايرة والإهانة، لن يكون بالبكاء بعد اليوم، بل بفضح كل من يُعاير الأفراد بأزماتهم النفسية، تماماً كحملة فضح متحرّش.

شكراً لمَن جعلتني أعود إلى الكتابة، من دون أن يكون لديها أدنى عِلم بمعاناتي، وبأنني طوال عام لم أستطع أن أكتب حرفاً، وكنت دائمة الشعور بالفشل. لكن العودة في بساطتها، كانت برعاية يسمى ومشاغبتها، وكانت انتصاراً جديداً ضدّ الاكتئاب.