الموت المفاجىء يطارد رائحتهم

عدنان نعوف
الأربعاء   2022/10/12
مقتطف من مشروع تجهيز للفنان السوري محمد حافظ بعنوان "أمتعة اللاجئين"
منذ أيّام، وأنفُ هذا الشاب السوريّ أصبح مختلفاً. صحيحٌ أنه يتمدد، وفتحتاه تتوسعان، لكنه لم يصل إلى مرحلة النمو على طريقة "بينوكيو". إنه أقرب ما يكون إلى أنوف الفئران الطريّة النشِطة.

في هذه المدينة الألمانية، كما في مُدنٍ أخرى يقطنها لاجئون، اعتاد عدنان الاستمتاع بروائح سوريّةٍ تعبث بالأجواء البليدة. ثُومٌ يتقلّب مع نعناع، وبهارات محاشي مُشبَعة بعصير الطماطم. ملوخيّة تعانق الدجاج والكزبرة، فيبتهجُ الهواء، ويكافئ الحيّ، ناشراً الرائحة إلى أبعد مكان.

تكرّرَ الموقف من أسبوع لآخر، حتى باتت الحواس تبحث مسبقاً عن الجمال المتجسد في رائحة. وفي هذه الحالة، من الطبيعي أن تستنفر الحاسة المستخدمة لتقصّي مصادر المتعة، بل وتتحرك كأنها تفتّشُ عن أحياءٍ تحت الأنقاض. استمرّ الأمر كذلك إلى أن ضربَ زلزال حواسّ عدنان.

"يا شباب صرلي كم يوم بس إجي لعندكم بشم ريحة غريبة بالممرّ. شي متل عفونة".

لم يُطِل عدنان الحديث، لأن صديقه المضطجع على أريكته قدّم تفسيره الهادىء:

"عااادي.. يمكن تكون جارتنا الألمانيّة الختيارة توفت وما حدا عرف فيها لسا. عايشة لحالها متل كتار وبتضل خايفة ع حالها".

كان هذا الردّ كفيلاً بإحداث هزّة دماغية خفيفة لدى عدنان، بقوّة بضعة تساؤلات على مقياس تربيته. فلا شيء في نظره يبرر اعتبار الإنسان كتلة لحم، رغم التسليم بتبلّد المشاعر الإنسانية تجاه فكرة الموت بفعل وسائل وأنماط التواصل الاجتماعي، وتحوّل جزء من علاقات الناس إلى لحظات هرمونية تؤدي واجباتها بكلمة أو إيموجي.

لقد تمنّى لو يُشير له أحدهم بأن حواره مع صديقه جزءٌ من مشهد يتم تصويره في فيلم أو مسلسل. في قرارةِ نفسهِ أدرك منذ زمن أنه سيلمس اختلاف القِيَم وأساليب التعاطي، فلا مجال لمقارنة العواطف بين بلاد العائلة والقبيلة، حيث كلّ شيء مُهابٌ ومَهولٌ، وبين بلاد الدولة والفرد حيث تتخفف العلاقات من أثقالها ومن نفسها أحياناً، فيصبح الجميع مجرّد آلات.

ربما تبلدت أحاسيس كثر من المهاجرين، تجاه ما لا يخصّهم، نتيجة اندماجهم في مجتمعات أوروبية. إلا أن سبباً إضافياً جَمّد شعور بعضهم، ألا وهو مأساة شبان سوريين في الداخل والخارج، يتساقطون في معركة الصبر وتحمل أعباء الحياة.

"متلازمة الموت المفاجئ، سببٌ نفسيّ، نوعية غذاء، سمَةُ عصر..". تحاولُ تفاسير متنوعة تحليل الظاهرة المنتشرة على نطاق أوسع من سوريا وأوروبا، من دون أن تستطيع فتح الصناديق السوداء للموتى.

ما يطفو على سطح التداول، كلامٌ واضح عن شيوع السكتات والجلطات والنتائج المُميتة لارتفاع ضغط الدم، وما ينتقل بالهمس تخميناتٌ يرفض معظم الأطباء توكيدها أو نفيها حول بضع وفيات بجرعات مواد مُخدِّرة.

على اختلاف الأسباب، يَصِحّ اعتبار هؤلاء جميعاً ضحايا، بلا قاتل ولا غَريم. فرحيلُهُم لا يستجدي تعاطفاً، ولا يسعى لدفع اللوم عنهم. وإنْ بدا ملحمياً أو تراجيدياً، فلأن أي مقارنة انفعالية سيكون عنوانها "الوطر" وما بلغَهُ إنسانٌ من حاجات ورغبات. فعند الوفاة، لا بد أن يحضر السؤال: هل أقام وَطرُ الدنيا في نفس فلان، أم أنّهُ "مَرّ كَلَمْحِ البصَرِ".

يَسهُلُ أمام ذلك خلق تخيّلات وتبريرات تنهي الجدل مؤقتاً، من دون أن تستطيع تهدئة روع النفس، ليبدأ عندها تصوّرٌ غيبيٌّ يَرسم قابضَ الأرواح "عزرائيل" وكأنه إبهامٌ في يد القدَر، يُحرّك حيَوات الشباب كمقاطع فيديو في شاشة هاتف خليوي. يُمرّر ما لا يثير فضوله منها سريعاً، أو يشاهد 30 سنةً منها بأحسن الأحوال.

كل هذه الأرواح تعبُرُ ولا تُقيم، بل تطير كزَغَب زهرة هندباء عند هبوب رياح المَرَض والقهر. فيما تتعتّق أعمارٌ أخرى في المنازل والحانات، أو تذوي ببطء في دُورِ المُسنّين. يبدو الأمر أقرب لمشهد مأخوذ من أساطير، وأبعد ما يكون عن مواجهة تجمع فئتين عمريتين في حلبة تنافسية.

لكنّ درباً آخر سيقود إلى الحقيقة القاسية القائلة بأن" البقاء للأقوى في مسار التطور ومواكبة التحولات". والأقوى هنا ليس البطل أو الشجاع، ولا صاحب المورثات المثالية، وإنما الأقلّ جمالاً! وتلك ليست مذمّةً ولا انتقاصاً من الأحياء، ولو جاءت على سبيل المجاز. كما أنها لا تمثل استكمالاً لعبارة عاطفية نرددها كلّما توفي شاب، ومفادها "أن الموت يختار الأجمل بيننا". ففي دواخلنا نعرفُ أن البَوح بتأثير الصدمة يأتي مُكرِّماً للفقيد عبر وصفه بصفات الجمال الشكلي أو الداخلي، جرياً على عاداتنا في منح الخاسرين عدالةً لفظيّة. أما الواقع فهو أن "الموت يختار مَن يستهلكون نفوسهم بيننا"، وأن القلوب الشابّة تصمتُ فجأة إذا اغتالتها مشاعرها الدافقة بلا حساب، أو نهشتها أسئلة الوجود والعبث الكبرى.

قد يكون الراحلون باكراً، جميلين في حياتهم أو في موتهم. غير أنّ سبب رحيلهم شيءٌ آخر. فما نطلقُ عليه اسم "الموت الغامض المفاجئ" يَشمّ رائحة خوفهم، وقلقهم، وطموحهم العالي والمتواضع، وامتنانهم لأفراح وَصَلت متأخرة.