... وصار لدهَّاني حائط المرفأ شبيحة!
كان الأجدى بحائط المرفأ أن يبقى كما هو، بكل ما يحويه من قبح معبّر عن فظاعة الجريمة، بكل الشتائم الفجة التي كتبها أناس مفجوعون بعفوية. كنتَ قادراً، عندما تقرأ كتاباتهم على الحائط، أن تشعر بارتباكهم وخوفهم وارتعاش أيديهم بينما يخطّون كلماتهم.
حتى الأمس القريب، كان المشهد منسجماً: مرفأ مدمر وحائط هش، حين تقرأ الكتابات والشتائم المكتوبة عليه، تستطيع أن تسمع دوي الانفجار، صراخ الناس المفجوعة وأنين الجرحى وتسمع شتائم من تخلت عنهم دولتهم ليعيدوا لملمة أشلاء العاصمة وجمعها من جديد.
قال عاملين مشروع رسم على حيط مرفأ بيروت هدفه التقليل من غضب اهالي الضحايا ومساعدتهم على تَقبل موت ابنائهم بسلام وعدم التعامل بغضب وعنف وعدم تحميل الدولة المسؤولية!
— weddo-J (@Weddo_J) April 15, 2021
الناشطين اصحاب هذه الفكرة هني أسوء ناس بعد السياسيين بلبنان!
قال بمحبة وسلام !! و لونوا الحيط لمستقبل افضل😏 pic.twitter.com/CMTPF6bPGc
في مقابلتها مع طوني خليفة بالأمس، قالت كارلا كرم، صاحبة فكرة طلاء حائط المرفأ، أنها لا تفقه شيئاً في السياسة، لكن ماذا تفعل امرأة لا دخل لها في السياسة في مسرح أكبر جريمة ارتكبتها دولة/نظام/طبقة سياسية، بحق شعبها وجرى تسييس كل شيء فيها، ليس في لبنان وحده، بل في العالم؟ الجواب هو العبث.
اعتذرت كرم عن مسح جملة "دولتي فعلت هذا". قالت: كيف لا أعتذر وأنا أعلّم الآخرين الاعتذار؟ بالنسبة إليها، كان يكفي للدولة أن تعتذر عما اقترفته في حق شعب أعزل. الاعتذار في صلب التواصل اللاعنفي الذي "تحترفه" كرم: أضربه واعتذر، لا داعي للعنف، إذا ضربك على خذك الأيسر فأدر له الأيمن، أرسم معاناتك على جدار أو على ورقة، لا يهم.
لدينا، نحن اللبنانيين، ميل شديد نحو الرومانسية. نحوّل كل شيء إلى فن، كل القضايا، الحروب، الأزمات، نرسمها، نعزف لها الموسيقى، نتفنن في نقل معاناتنا وتذمرنا من دون أن نحاول معالجة جذور المشكلة، أو هكذا يقال لنا. حدث ذلك مع الحرب الأهلية. لدينا متاحف، مبان قديمة اخترق الرصاص جدرانها، ومازلنا نحافظ عليها كشاهد على حربنا. بوسطة عين الرمانة، معارض صور ولوحات فينة. أنتجنا ذلك كله من دون أن نحاول ردم الهوة التي أنتجتها الحرب بين اللبنانيين، ولا أن نبحث عن جذور الحرب ونعالجها، حتى أننا لم نكتب تاريخ الحرب. لم يكن هناك سوى الفن، أي الرومانسية والنوستالجيا. النتيجة أن الحرب استمرت، لكن من دون رصاص. وما ينطبق على الحرب، ينطبق على انفجار المرفأ.
حائط #مرفأ_بيروت.. محاولة بشعة لمحي آثار الجريمة pic.twitter.com/0Gm7r2f5kB
— Naim Berjawi | نعيم برجاوي (@Naimbrj) April 15, 2021
ما تفعله السيدة كرم، من خلال طلاء حائط المرفأ، هو أنها تطمس الذكرى وتغيبها. تستبدل الألوان الكئيبة والأليمة للجدار، بألوان البهجة والفرح، كأن كل شيء انتهى، كأننا انتصرنا في معركتنا للوصول إلى الحقيقة والمحاسبة، ولم يبق إلا أن نعبر عن انتصارنا بألوان زاهية.
لهذه الأسباب وغيرها، اعترض العديد من الناشطين على مسح العبارات القديمة عن حائط المرفأ وإعادة طلائه من جديد، معتبرين أن هذه الرسوم تخفي الجريمة وتطمسها، وتظهرنا وكأننا تخطينا الأزمة والانفجار وعاد كل شيء إلى طبيعته. بل تحثّنا على التهذيب، تهذيب الألم، تهذيب الحق كتعويض عن تحصيله، فينتهي.
هؤلاء المعترضون قوبلوا بالتنمر من قبل المشاركين في طلاء حائط المرفأ، ووصل الأمر ببعضهم إلى تهديد الناشطين، كما حدث مع الكاتبة رولا الحسين في فايسبوك، والتي هددها شاب يدعى طوني البايع في حال لم تحذف تغريدات تنتقد فيها طلاء الحائط. بل وهددها "بمكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية" على اعتبار أن ما كتبته "قدح وذم"، وأكثر من ذلك هددها ببهدلتها عبر برنامج طوني خليفة الذي بثت حلقته أمس.. هكذا يهدد الشبيح بالمُبتذل.
لكن بين اللبنانيين من يرفض القمع المهذب هذا. فتاة قصدت الحائط المفرغ، قبل إعادة طلائه بـ"فرح الوجع" وهراء اللاعنف، وخطّت عليه شتيمة.. بذاءة الحد الأدنى، في وجه "السلام" و"اللاعنف" الطامس القامع، هي أقل ما يستحقه المجرم إلى حين عقابه الحقيقي.
|
Posted by Fadi Toufiq on Thursday, April 15, 2021 |