قانون قيصر يبدد أحلام الأسد في "مجتمع متجانس"

وليد بركسية
الخميس   2020/06/18
من المدهش حقاً كيف يستطيع النظام السوري تجاهل كل الوقائع التي مازالت تجري في البلاد منذ عشر سنوات، من أجل الوصول إلى نتيجة واحدة يكررها بلا ملل، وتتلخص في رمي كل مشاكل البلاد على مواقع التواصل الاجتماعي التي تصبح جزءاً من المؤامرة الكونية ضد "الدولة السورية". والدليل الأخير الذي ساقته وسائل إعلام النظام لهذه النظرية "العبقرية" هي عدم حجب مواقع التواصل عن البلاد، من قبل شركات التكنولوجيا الكبرى، رغم البدء بتطبيق قانون قيصر الذي يفرض عقوبات جديدة على نظام الأسد وداعميه.


وتكثفت هذه النظرية في مواقع التواصل من قبل إعلاميي النظام والموالين له، مع استضافة الإعلامي فيصل القاسم في برنامجه "الاتجاه المعاكس" على شاشة "الجزيرة، للناشط الموالي بشار برهوم، المعروف عموماً بتبعيته لمخابرات النظام. فرغم أن اللقاء الذي عرض مساء الأربعاء، شهد مشاركات من شخصيات أخرى تقيم في مناطق النظام، مثل عضو "مركز المصالحة الروسي" المقرب من النظام، عمر رحمون، ورئيس حزب "سوريا أولاً" سليمان شبيب، إلا أن الصفحات الموالية للنظام ركزت في هجومها على برهوم فقط، باعتباره نموذجاً لناشطي مواقع التواصل الذين ينتقدون الأوضاع المعيشية في البلاد.

ووفق المنطق الموالي، فإن ظهور برهوم على شاشة "الجزيرة" هو دليل على تبعية كافة ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي للدول المتآمرة على سوريا، حتى لو كان تشبيح برهوم لرئيس النظام بشار الأسد، في مداخلاته، واضحاً، بإلقائه اللوم على الحكومة والفاسدين، عند الحديث عن الأزمة الاقتصادية في البلاد وانهيار سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار الأميركي. وبسبب ذلك تكثفت الأسئلة بأسلوب النسخ واللصق: "مكرر بمناسبة قيصر. لماذا خلت كل عقوبات وإجراءات عاصمة الشر من حجب مواقع التواصل عن سوريا؟ هي أداة يريدونها للفوضى والشر ونريدها للنظام ولخير سوريا".



والحال أن برهوم المتحدر من مدينة اللاذقية، يشتهر بعلاقته مع أجهزة المخابرات، وهي تهمة تلاحقه من قبل الموالين للنظام والمعارضين له على حد سواء، وتحديداً عند حديثه عن الأزمات المعيشية أو مهاجمة الحكومة، كأسلوب لتخفيف الغضب الشعبي في مناطق النظام، وتجلت تلك العلاقة بشكل واضح، مع تفاقم الأزمة الاقتصادية في البلاد أواخر العام الماضي، عندما دعا السوريين في مناطق النظام لعدم الاحتجاج في الشوارع، حتى لو وصل سعر صرف الدولار الأميركي في البلاد إلى 5000 ليرة سورية، كما كرر ذلك في "الاتجاه المعاكس" بالقول أن المظاهرات ليست أسلوباً يوصل إلى نتيجة، بموازاة استجدائه الأسد للتدخل.

وهكذا، ليس مستبعداً أن يكون برهوم قد حصل على الضوء الأخضر من الأجهزة الأمنية، للظهور على شاشة "الجزيرة" لتشكيل نقطة ترتكز عليها دعاية النظام الموجهة للموالين، وتحديداً في البيئة العلوية التي قالت تقارير محلية وعالمية، في الأيام القليلة الماضية، أنها تشهد تعبيراً متزايداً عن الملل من حكم عائلة الأسد التي أفقرت السوريين جميعهم، وهي مشاعر غذتها سنوات الحرب الطويلة والأزمة الاقتصادية التي دفعت السوريين في محافظة السويداء جنوب البلاد للتظاهر في الشوارع مع شعارات ثورة العام 2011، بالتوازي مع الخلافات التي طفت للسطح مؤخراً ضمن عائلة الأسد نفسها، ومشاعر الانزعاج التي عبر عنها رجل الأعمال رامي مخلوف مع القرارات التي لاحقت شركة الاتصالات "سيريتل".



وبما أنه لا جديد في خطاب النظام القائم على ضرورة التصدي لقانون "قيصر" بالصمود فقط، أعاد إعلاميو النظام تدوير عبارات تلوم الشعب السوري على ما يجري في البلاد، وتحديداً ما يخص الشكوى من الوضع المعيشي الكارثي، الذي لا يجب الحديث عنه بل إخفاؤه والصبر عليه بصمت ورضى، لأن عكس ذلك، أي المطالبة بالحقوق الأساسية مثل الخبز والدواء والكهرباء ومياه الشرب، يعتبر إساءة لصورة البلاد ودعماً للإرهاب.

ويجب القول أن لوم السوريين على كل ما يحصل في سوريا من انهيار، على كافة المستويات، ليس جديداً، فإعلام النظام الرسمي وشبه الرسمي، اعتمد ذلك الطرح حتى في فترة ما قبل الثورة السورية العام 2011، بتعويم أفكار سامة مفادها أن الشعب السوري غير واع ويحتاج إلى القيادة الحكيمة التي توصله إلى بر الأمان، ما يستوجب الطاعة التامة، وتكرر ذلك بعد الثورة بكثافة، ويمكن تلمسه مثلاً في برامج مثل "قولاً واحداً" الذي قدمته قناة "سما" شبه الرسمية العام 2015، أو برنامج "منقدر" الذي تعرضه قناة "لنا" الموالية منذ مطلع العام 2019 وحتى في الدراما السورية في مسلسلات مثل "الندم" للكاتب حسن سامي يوسف والمخرج الليث حجو، العام 2016.

وبهذا فإن خطاب النظام يحافظ على جموده لا أكثر، ويصبح الانهيار الحالي والعقوبات وقانون قيصر، كلها دليلاً على الانتصار العسكري ما يستوجب بالتالي الاحتفال وليس الاحتجاج. وفيما يتم التأكيد على أن النصر العسكري الذي حققه "الجيش السوري"، ليس كافياً لتحقيق النصر في "المعركة الاقتصادية" المستمرة، فإن الحل يتمثل في صمود المواطن السوري كعربون شكر وامتنان لـ"الدولة السورية" على الاستقرار الأمني.



في ضوء ذلك انتشرت بين الصفحات الموالية، مقولة للرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول: "كيف بإمكانك أن تحكم بلداً يأكل شعبه 246 نوعاً مختلفاً من الجبنة؟". وإن كان قول ديغول يأتي ضمن سياق تاريخي يتحدث عن تطور الهوية الوطنية في فرنسا منذ القرن التاسع عشر نحو الديموقراطية بصورتها الحالية التي تعني مشاركة الشعب في الحكم، مثلما توضح صحيفة "دايلي تيلغراف" البريطانية، فإن موالي الأسد لم يفهموا من العبارة إلا أن الدكتاتورية هي الحل، بعقد مقارنة عجيبة بين ديغول والأسد.

وبالطبع فإن الضحك هو ردة الفعل الطبيعية عند قراءة رسائل الموالين للأسد: "لو كان شارل ديغول حياً يُرزق لأتى اليك وقال لك علمني فن السياسة يا سيادة الرئيس"، لكن ما يمنع المتابع من الضحك أو حتى الابتسام، هو الطبيعة الظلامية لهذه المنشورات التي تصف الشعب السوري بالتخلف والهمجية والغباء والطائفية والأصولية، بما يمنع الأسد من الوصول للحكم الرشيد الذي كان يمكنه تحقيقه لو امتلك شعباً أفضل. ويجعل ذلك بالتالي كل ما قام به النظام خلال السنوات الماضية ضد الشعب السوري مبرراً وطبيعياً لأن الخلل في سوريا يكمن في الشعب الجاحد الذي يجب تربيته والعمل على تصفيته وخلق "مجتمع أكثر تجانساً"، وهي عبارات خرجت من فم الأسد شخصياً في عدة خطابات ولقاءات إعلامية سابقة له.

ومن الملاحظ أن دعاية النظام بما تحمله من سطحية وسذاجة، مثل نشر صور لجنود النظام وهم يكتبون كلمة "سوريا" على التراب أو رسوم الكاريكاتير والتصميمات التي نشرتها الصحف الرسمية، وتصف قانون قيصر بأنه جزء من حملة إبادة ممنهجة، بكل ما يتضمنه ذلك الوصف من تناقض مع الواقع لأن القانون هو رد فعل على حملة الإبادة الممنهجة التي قام بها النظام ضد شعبه طوال 10 سنوات، لم تثر إلا سخرية السوريين واستياءهم، وبالتحديد في مناطق سيطرة النظام، بما في ذلك العاصمة دمشق، التي أحجم أهلها عن الخروج في مسيرات داعمة للأسد في دمشق الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، في مشهد رفض نادر تحدثت عنه الصفحات الموالية.

ويعني ذلك أن سياسة الأرض المحروقة لم توصل النظام إلى المجتمع المتجانس المنشود، رغم قتل نحو نصف مليون سوري وتشريد نصف سكان البلاد بين نزوح داخلي ولجوء خارجي، يشكلون في مجموعهم التفاحات الفاسدة التي وجب التخلص منها كثمن "زهيد" للوصول إلى "اليوتوبيا الأسدية" التي يبقى فيها الأسد في الحكم إلى الأبد ممتصاً دماء السوريين، من دون أن يشتكي أحد، وينعكس ذلك بوضوح ضمن ردود الأفعال في مواقع التواصل تجاه تبعات قانون قيصر.

وفيما تقدر الأمم المتحدة تكلفة عملية إعادة الإعمار المتعثرة بنحو 300 مليار دولار أميركي، فإن الاستقرار في البلاد يبقى بعيد المنال، إلى حين حدوث خرق سياسي ما يكسر الجمود، سواء بتأثير قانون قيصر والعقوبات الغربية أو بتأثير الاحتقان الداخلي المتزايد ضد عائلة الأسد، خصوصاً أن الاستقرار في البلاد مرتبط حكماً بوجود حل سياسي يوصل سوريا إلى بداية طريق الديموقراطية بما ينهي المظالم المستمرة منذ عقود، والتي يعتبر النظام السوري مسؤولاً عنها بالدرجة الأولى.