"سعد الحريري كاذب"؟!

بتول خليل
الجمعة   2020/02/14
(علي علوش)
الوقائع والتواريخ والأحداث الموثقة التي قدّمّها رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، في خطابه في الذكرى الـ15 لاستشهاد والده، باتت معروفة للقاصي والداني، إلا أنها بدت بالنسبة للعونيين "أكاذيب" و"اختلاقات" أراد من خلالها الحريري، التهجّم على رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، كونه "يهجس به" ولا يفوت فرصة إلا "ليحمّله مسؤولية خراب البلد وانهيار اقتصاده".


وليس مستغرباً على العونيين أن يكونوا خارج الواقع ومنفصلين عن الحقائق المرتبطة به، وهو ما عكسته وتعكسه تعليقاتهم في مواقع التواصل في حملاتهم المعتادة والتي كان آخرها اليوم عبر هاشتاغ #سعد_الحريري_كذاب، والتي تضمنت تداولاً واسعاً لتغريدة قائدهم "الملهم" باسيل، الذي غرّد مخاطباً الحريري: "شو ما انت عملت وقلت ما رح تقدر تطالني، وكيف ما انا كنت ما رح اقبل كون متلك... بتفرّقنا بعض القيم والمبادئ، بس رح يرجع يجمعنا التفاهم الوطني... رحت بعيد بس رح ترجع، الفرق انو طريق الرجعة رح تكون اطول واصعب عليك"، ليأتي التعالي من الحريري الذي همّ بالردّ أولاً قبل أن يحجم عنه قائلاً: "لن أرد خصوصاً وأننا في ذكرى اغتيال رفيق الحريري"، وكأنه قد احتفظ بالرد لوقت آخر خارج سياق الانفعال.

   
ولأنه كان يمكننا أن نصف الحريري بأوصاف متعددة، منها السلبي والإيجابي، إلا أنه من المعروف أن الكذب ليس واحدة من خصال الرجل وشمائله. في حين أنّ جبران باسيل لم يخيب املنا بخطابه الفوقي والاستعلائي حتى بمخاطبة الحريري، والذي يُشكّل إدانة ذاتية من فم قائله، إذ إن تغريدته أرجعتنا للعام 2007، حين قال عون للرئيس الأسبق أمين الجميل أنك ومن تمثله لا تصلون إلى تحت زنّاري.

وباسيل لا يمكن أن يوازي الحريري بأي شكل او حال من الاحوال، ففي ابسط المقاربات واكثرها سطحية يمكننا القول، براحة ضمير، إنّ الحريري دخل معترك السياسة مليارديراً ليمسي بعد 15 عاماً مليونيراً، في حين أن باسيل دخل معترك السياسة معدماً ليؤول به المآل بعد 15 عاماً موسراً، وهذا أمر لا زيف ولا ريب فيه، وهو حقيقة دامغة. 

وليست هذه المقاربة لتبرئة الحريري، إنما لإعطاء صورة عن الواقع الذي لا يحبّ منتسبو التيار الوطني الحر ومناصروه معرفته او الاعتراف به. ولا شكّ في أن الحريري، الذي اعترف بأنه دخل السياسة غرّ وحدث، سلبته السياسة الكثير من ماله، وعرّضته ليذوق سمّها وغدرها، من ثلّة وجلاوزة الحرب الذين تشاطر معهم السلطة. فالسؤال الذي طرحه البعض عن عدم اختلاف الحريري عن باقي الطبقة السياسية، جوابه الأول يكمن في أن سعد الحريري وقبله والده الشهيد، لم تتلوث أيديهما بدماء الشعب اللبناني، فيما أن باقي رؤوساء الأحزاب القابضين على السلطة برمّتهم، تُثقل أعناقهم عشرات إن لم يكن مئات الآلاف من ضحايا الحرب والتهجير ليصبحوا طلقاء قانون العفو، الذي أوجوده للتفلّت من ماضيهم الاجرامي، فيما أن الرجل لا يحمل على يديه نقطة دم واحدة، وهذا فرق ليس بالبسيط.

كما أنّ الحريري يمكن وصفه بسمات وصفات كثيرة منها السذاجة والمراهقة السياسية وبأنه كان محاطاً بزمرة من الفاسدين إن كان في الدولة أو في تياره، إلا أنه غير متهم بالفساد بشخصه، فيما أنّ رائحة الفساد التي تفوح من باقي الطغمة السياسية الحاكمة تزكم الأنوف، وليس أدل من ذلك ثرواتهم المتعاظمة حتى في لحظات انهيار لبنان الاقتصادي ووقوفه على شفير الافلاس، في حين أن الحريري يتخبّط في أزماته المالية، التي طاولت كل المؤسسات التي ورثها عن والده، الأمر الذي يمكن وصفه بسوء الإدارة ولكن ليس بالفساد.

ويمكننا كتابة مطولات عن نقص الكفاءة السياسية في أداء سعد الحريري، إلا أنه ومن قبله والده، لم يؤمنا يوماً بحمل السلاح، في وجه أقرانهم اللبنانيين، وليس في تاريخهما سجل اغتيالات أو محاولات إلغاء في الوقت الذي تتلطّخ صفحات وأجندات باقي الزعماء السياسيين بشواهد ثابتة تدل على انتهاج القمع والتنكيل والتصفية الجسدية والالغاء للمعارضين.

ومهما يُقال عن الحريرية السياسية والصفقات التي حامت حولها إلا أنّ لها إنجازات مشهودة يؤخذ عليها الكلفة العالية، التي أرغم على دفعها في ظل الوصاية السورية والمتنفعين والمنتفعين من سلطانها. فيما أنّ إنجازات الآخرين لا تتعدى السلب والسطو على الدولة واستحلاب خيراتها. لذا فإن كانت المقارنة بين من هو أكثر قتلاً وأشدّ تنكيلاً وفساداً من جملة المتصدرين للمشهد السياسي الحالي في لبنان، فلا ريب أنّ سعد الحريري يتذيّل هذه اللائحة، فيما يتصدرها الآخرون بجدارة، بل هم مؤهلون للترشّح بالظهور في كتاب "غينيس" في سجلات الإجرام والفساد.

وفي حين أنّ الحريري سوف يذكره التاريخ أنه كان "الرئيس" الوحيد، بين "الرئاسات" الثلاث، الذي كانت لديه الجرأة لتقديم استقالته على مذبح الثورة والانتفاضة، بصرف النظر عما إن كان مرغماً أو مناوراً، أبدى الرؤساء الآخرون، المزيد من التكالب على السلطة والتمسّك بالعروش والاستعداد لسحل وسحق وتخوين المتظاهرين والثوار، الأمر الذي لم يفعله الحريري، الذي اعترف بأحقية المتظاهرين قولاً وأردفها بالاستقالة فعلاً، معللها بأسباب لسنا في وارد النقاش في مدى قناعتها أو صوابيتها.

وليس خفياً على أيّ متابع لمجريات السياسة في لبنان بأنّ الحريري هو المسؤول الوحيد الذي عاكس مسار شارعه وغامر بخسارة شعبيته، في سبيل السير بالحلول التي دُفع إليها، راضياً أو مكرهاً، فإننا نجد في المقلب الآخر، بأن خصومه السياسيين كانوا يلجأون دوماً إلى تسعير الخطاب المذهبي والطائفي لكسب المزيد من شعبية شوارعهم وشدّ أزرها على حساب مصلحة لبنان، وهو الأمر الجلّي الذي أتت ترجمته في الانتخابات النيابية الأخيرة، والذي كان يدرك الحريري أنها سوف تخسره شعبياً ولا تلقى صدى إيجابياً عند تياره ومحازبيه وأنصاره.

وهنا تُسجّل أيضاً نقطة لصالح الرجل الذي قال في خطابه اليوم "إذا كان في خروجي من المشهد السياسي مصلحة لبنان ودرءاً للفتنة، فهو ثمن مستعد لدفعه بطيب خاطر"، فيما أنّ باقي أحزاب السلطة كانوا دوماً على استعداد لتهشيم البلد ودفعه إلى الهاوية، مقابل عدم التخلّي عن حارس للأحراش أو باش كاتب في إحدى الإدارات.