عزمي بشارة "في نفي المنفى"... الاقتلاع وحلم العودة(2/2)

بشير البكر
الثلاثاء   2022/01/04
من تظاهرة فلسطينية في الناصرة، العام 2007، لدعم بشارة في وجه الحملة الأمنية الإسرائيلية (غيتي)
كتاب "في نفي المنفى" كتاب مهم، لأنه يلخص جوانب من تجربة مفكر عربي معروف هو الدكتور عزمي بشارة بلسانه، وتحديداً تلك التي الجوانب التي تربط المناضل بالمثقف، ولأنه يمكن اعتباره عملاً مرجعياً للتعرف على مساره العام منذ الولادة في فلسطين العام 1956، وحتى لحظة إجراء الحوار الشامل معه من قبل الكاتب والصحافي صقر أبو فخر، وصدوره في كتاب تحت عنوان "في نفي المنفى حوار مع عزمي بشارة" العام 2017.
بعد حلقة عرضٍ أولى في "المدن"، تحت عنوان "المثقف في الزمن الصعب"، هنا الحلقة الثانية والأخيرة. 

"اليسار وأطروحاته" فصل قصير(الرابع) بالقياس إلى الفصول التي سبقته والتي تليه،  ويتضمن قراءة من قبل بشارة الذي يعرف الفكر الماركسي جيداً من موقع نقدي، وبالنسبة له فإن أفكار اليسار القديم او التاريخي المتحدر من ماركس انتهت حتى في الغرب، موطنها الأصلي، وما عادت البروليتاريا الصناعية غالبية حتى في الدول الصناعة الغربية، وتبدلت بنيتها تماماً بحكم التغيرات البنيوية للصناعة نفسها. ويقول إن بعض الماركسيين حاول معالجة الموقف "من خلال إعادة تعريف مفهوم الطبقة العاملة وتوسيع مدلولاتها، إلا أن هذه المحاولات كانت في جوهرها محاولة إنقاذ للنظرية بدلاً من فهم الواقع الجديد". وفي رأيه إن "الطبقة العاملة بمعناها الماركسي موجودة اليوم في الدول الاشتراكية السابقة وفي الصين، وهي طبقة عاملة حقيقية نمت في ظل التصنيع ورأسمالية الدولة.. أما في بلداننا، فالموضوع مبتور منذ الأساس"، حيث لا مجتمعات صناعية، والطبقة العاملة تشكل أقلية أصلاً...

ويتم الانتقال بسلاسة إلى الفصل الخامس الذي حمل عنوان "النهضة والعلمانية والليبرالية والبعث والناصرية". ويبدأ الحديث من كتاب بشارة "طروحات عن النهضة المعاقة" (2003)، الذي يتبع أسلوب المقالة المطولة فيتيح الكتابة "بعمق وعقلانية، لكن بشكل حر، والامتحان فيه هو الإتيان بأفكار جديدة، وليس عدد المصادر التي يستخدمها الكتاب"، ويقدم بشارة موقفاً من "التخصصات" ويقول "أكاد أرثي لأصحابها، وأواصل إنتاجي الفكري والتزامي القيمي تجاه قضايا مثل الحرية والمساواة. وأعتقد أنني كنت أقوم بجهد نهضوي"، ويتساءل ما الجهد النهضوي الذي كنت اقوم به؟ ويجيب إنه "بناء المؤسسات الحديثة في تحد للبنى التقليدية والعقليات التقليدية، وكذلك الانتاج الفكري كعملية تحليل ونقد".

وفي حديثه عن النهضة يعتبر أن الدولة الوطنية، على الرغم من أزماتها الكثيرة، قطعت شوطاً كبيراً في التعليم والتغذية والعلاج الطبي ومعدل الأعمار، وعلى مستوى المحددات الأساسية للتنمية البشرية بالنسبة إلى ما سبق. كما حققت الدولة الوطنية الكثير قبل أن تفشل، أو قبل أن يظهر فشلها. وبغض النظر عن خيارات الدولة، فكلها اعتمدت سياسات التخطيط المركزي، حيث قادت الدولة عملية تنموية كبرى انعكست نقلات نوعية في أوضاع المواطنين ومعيشتهم "وما عاد العربي بحاجة إلى تخليص الإبريز في تلخيص باريز، لأن أناساً كثيرين يزورون اليوم باريس". ويمر بشارة على النهضويين العرب، ويرى أن طه حسين مازال يحتفظ بقيمة كبيرة في منهجه العقلاني عند التعامل مع قضايا شائكة، وأن صياغة فرح انطون للعلمانية هي الأكثر دقة بين صياغات العلمانيين المعاصرين "من دون التنكر للحضارة الإسلامية"، وعبد الرحمن الكواكبي، يمكنك حتى اليوم اقتباس فقرات كاملة من كتابه "طبائع الاستبداد" من دون أن تغير حرفاً. أما شبلي الشميل، فليس هناك أي تجديد في أفكاره، "وأعتقد أن محمد عبده كان الأهم بين منظري الإصلاح الديني في جيله.. وكان عنده تأثير كبير في نمط التدين المديني الإسلامي، خصوصاً في محاولة الملاءمة بين الفقه الإسلامي ومتطلبات الحداثة". وفي رأي بشارة "يمكن تلخيص أهمية مفكري النهضة المنقسمين بين رجال دين وعلمانيين وحتى معادين للدين في أنهم كانوا جميعاً متصالحين مع الحداثة، ومؤيدين لفكرة التقدم التي رافقتها، ومستوعبين جميعاً روح العصر ومناهضين للتخلف".

وبخصوص النظرة إلى "البعث"، الذي كان حزباً نخبوياً في البداية جذب مثقفين ومتعلمين من اصحاب المهن، فإن اختراق العسكر له واستراتيجيته الانقلابية "جعلت البعث يعمل على الاستيلاء على السلطة لتطبيق برنامجه، وتسرع الحزب الى السلطة جعله يتجه إلى الضباط.. وكان حزباً متصالحاً مع الاسلام الشعبي ومعادياً للأصولية الإسلامية، ولم يكن إلحادياً بل علمانيا، و"أعتقد أن أفضل من لخص تجربة مثقف مدني مع البعث هو منيف الرزاز في كتابه: التجربة المرة". ويرى بشارة إن تجربة "البعث" كانت أنضج من الناصرية فكرياً، "لكن العسكر، أمثال حافظ الأسد وصدام حسين، قضوا على تجربة البعث"، وفي المقابل "ارتبطت الناصرية بزعيم فرد، ولم يكن لديها حزب أو فكر جدي وناضج".

أحرزت جميع حركات التحرر الوطني استقلالها، إلا الشعب الفلسطيني، ولم تحقق حركة التحرير الفلسطيني أهدافها. هذان هما السؤالان الأساسيان اللذان يطرحان على الدوام، ويحتلان الفصل السادس من الحوار. وفي رأي بشارة يعود الأمر إلى تشابك قضية فلسطين وتداخلها بمسألتين، المسألة اليهودية والمسألة العربية. وجعلت المسألة اليهودية الحركة الصهيونية تبدو كأنها حركة قومية، واسرائيل كأنها تعويض عن ظلم آلاف السنين لليهود، علاوة على أن العالم الغربي الاستعماري صدّر مشكلاته إلى منطقتنا، وتحديداً المسألة اليهودية، بدلاً من أن يحلها في بلاده. أما في ما يخص المسألة العربية، فهناك الخلافات العربية العربية، التي أثّرت في وحدة الصف الفلسطيني، ثم التفتت العربي الذي عوّق تأسيس دولة ديموقراطية، وكذلك ظهور ايديولوجيات لها طابع فوق دولتي. ومنذ العام 1948 لم يتحسن الأداء العربي، حتى حين أثّرت نكبة فلسطين وقضية فلسطين مباشرة في مصائر هذه الأنظمة.

أما في سياق حركة التحرر الوطني الفلسطيني، فإن الأمر الذي يستحق التحليل والمناقشة هو المقاومة " لننتبه هنا إلى تحول خطير في المصطلحات له مضامين ومدلولات عملية.. فقد انتقلنا من العمل الفدائي المسلح إلى الكفاح المسلح والتحرير، ثم إلى شعار المقاومة التي تعني هنا دفاعاً عن النفس..". وعموماً كانت هناك شعارات تحرير، لكن لم توجد يوماً، في رأي بشارة، استراتيجية لتحرير فلسطين بمعزل عن الصراع العربي الإسرائيلي. فماذا بقي من تحرير فلسطين في ظل شعارات "الأرض مقابل السلام" التي تم التخلي عنها أيضاً لصالح التطبيع العربي مع إسرائيل؟ يؤكد بشارة إن "اسرائيل في مأزق لأن قضية فلسطين قائمة وتتفاقم، ولأنه من غير الممكن الحفاظ على نظام أبارتهايد في هذا العصر. والفلسطينيون في مأزق، صحيح، ولم يتم التحرر الكامل من الاحتلال الاسرائيلي"، وتضاعف الاستيطان، ويدور بين فصائلهم الكبرى صراع على السلطة، ويتكرس الانقسام بين الضفة وغزة والشتات المهمش، ولم تقم دولة فلسطينية، ومازالت اسرائيل تمسك بالمداخل والمخارج في الاقتصاد الفلسطيني، فضلاً عن السيادة وحياة الناس كلهم.

وبالنسبة إلى بشارة، فإن "المشكلة هي كيف نؤسس مشروعاً سياسياً جامعاً للفلسطينيين يطرح قضية فلسطين بشموليتها.. هذه هي المهمة الرئيسية أمام التفكير السياسي الفلسطيني، كيف نطرح في وجه إسرائيل والعالم كله، قضية فلسطين كلها، لا قضية الضفة وحدها أو القدس أو غزة وحدها؟"

عن علاقته بياسر عرفات، يقول بشارة إنها "كانت ممتازة"، ويتذكر مفاوضات كامب ديفيد 2000، بين عرفات وإيهود باراك، برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ويقول إن المشكلة "تكمن في أن أميركا تبنت موقف باراك مع بعض التعديلات، وأرادت أن تفرض على عرفات حلاً دائماً لا يمكنه قبوله"، وبدأت حملة التحريض عليه، خصوصاً في  ما له علاقة بالقدس. ويرى بشارة إن عرفات قدم تنازلات في كامب ديفيد، لكنه وقف عند القدس، وكان بعض المحيطين بعرفات يوهمون الولايات المتحدة أنها إذا ضغطت عليه، فسوف يرضخ لشروط الحل الدائم، وقد فوجئوا بموقفه، وحصلت بعد ذلك تداعيات، منها الانتفاضة الثانية "التي شكلت قلباً للطاولة في وجه باراك وشارون". وتعاملت معها اسرائيل كحرب وليس كتمرد شعبي، "ولاحقاً اغتيل ياسر عرفات، وضرب التيار الفلسطيني الذي مثله، والذي كان ينظر إلى المفاوضات مع اسرائيل باعتبارها تكتيكاً يمكن قلبه أو تغييره أو المناورة في شأنه". ويأتي بشارة على اتصال عرفات به، في الليلة السابقة لانتفاضة الأقصى، وقال له: "أخوك فيصل سيكون في الأقصى في الصباح، والرجاء أن تقفوا معاً"، وكان يقصد فيصل الحسيني. وكانت مشاركة بشارة في التصدي لشارون سبباً في التحقيق معه.

وعن اللقاء مع عرفات، يقول بشارة: "ما عدت أذكر بدايات لقاءاتي معه، لكنني ممن التقوه متأخرين لأنني كنت على خلاف مع خط أوسلو، وكنت أعيش في أوساط تنتقد ياسر عرفات كثيراً.. وكانت مقالاتي النقدية ضد سياسات منظمة التحرير وضد أوسلو، تُنقل إلى ابو عمار، وقد قال لي ذلك في أحد الاجتماعات، لكنه لم يعاتبني أبداً على تلك المقالات والمواقف النقدية، على الرغم من أنه كان على علم بموقفي..". ويتذكر بشارة أنه التقى عرفات العام 1996 ولاحظ أن لديه نزعة قوية للتشاور، خصوصاً مع من يفهم الساحة الإسرائيلية، وأن تكون علاقته جيدة بمن يعتقد أن لديه تأثيراً في الرأي العام. ورغم موقفه النقدي، يرى بشارة "الجوانب السلبية والإيجابية لياسر عرفات، مثل شجاعته. لم أحقد عليه يوماً، ولم أترفع عليه كمثقف.. لم أكن معه ولم أكن ضده.. هو وطني فلسطيني بلا شك.. يعرف فلسطين جيداً، ويعرف شعبه ولم يستطع أن يفصل شخصه عن فلسطين، وهنا يبدأ الجانب السلبي.. سياسته الحقيقة سياسة المغامر التي تنطلق من موقع الحركة لا من موقع الثبات.. من المحال أن يلحظ الواحد منا أي رائحة طائفية في كلامه وسلوكه". وتذهب أسئلة أبو فخر نحو بقية قيادة منظمة التحرير، وبعد عرفات يأتي على علاقة بشارة مع جورج حبش، ويقول بشارة: "عرفت جورج حبش من قرب، وكانت المودة متبادلة.. كان مناضلاً ولا شك في ذلك ومستقيماً"، ولدى المقارنة بينه وبين عرفات يرى بشارة أنها لا تصح، سوى أن الاثنين مناضلان فلسطينيان. وبالنسبة لعلاقة حبش، القومي العربي، بالماركسية، يرى بشارة أنها مفتعلة، لأنه بكل بساطة لم يكن ماركسياً، ولا علاقة له بهذا الموضوع، وجرى تبني الماركسية لاحقاً في خضم الانشقاق عن حركة القوميين العرب.. تبنى حبش خطاباً ماركسياً لينينياً في العام 1968، بتأثير اليسار في الغرب، ثم بتأثير سوفياتي صيني، "لكني وجدت أن جورج حبش كان قومياً عربياً وبقي قومياً". وعن رأي بشارة في حركة "حماس"، فهو يعتبر أن الحركة "مرت بتطور كبير، وقيادتها السياسية نضجت بالتأكيد"، وأنه على عاتق حماس بثقلها النوعي ونضالاتها وتضحياتها، تقع مسؤولية طرح تصور إسلامي مختلف عن الحركات التكفيرية المتطرفة من جهة، وعن "خط الأخوان السابق الإنعزالي وغير القادر على الحكم وعلى تقبل تركيب المجتمع وتعدديته ومبادئ الديموقراطية أيضاً".

وهناك نقاط مهمة عديدة في نظرة وموقف وعلاقة بشارة مع "حزب الله"، الذي أثار إعجابه. وحين أصبح نائباً في الكنيست، صار موضوع وجود اسرائيل في لبنان وانسحابها منه موضوعاً يومياً في الكنيست، واشتهر بشارة بخطبه المؤيدة للمقاومة من داخل برلمان الدولة المحتلة. ويقول إنه كان يعرف مدى مذهبية "حزب الله" وتعصبه، لكنه اختار تجاهل الأمرين، على الأقل في العلن، ملمّحاً إلى أنه أخطأ في ذلك: "أعرف أن هذه المقاومة مذهبية، وأن إيران تدعمها، لكن ثمة آليات على ما يبدو في ذهن الانسان تجعله حين يركز على الأساس يتجاوز ما يبدو جانبياً.. وفي مجادلات صهيونيين معي، حاولوا دائماً التركيز على أن المقاومة طائفية وشيعية ومذهبية"، لكن عندما تتطور علاقة ما بينك وبين حركة سياسية كالمقاومة، حيث إنك في صراع مع خصم سياسي يحاربها، "إذن أنت معها". ويضيف بشارة: "وفي المجمل تعاملت المقاومة معي حليفاً، وتعاملت معها حليفاً"، لأن الطرفين وجدا قضية مشتركة هي مقاومة الاحتلال، وحتى بعدما زال الاحتلال من جنوب لبنان، بقي يرى حالة نوعية في "حزب الله". ويتطرق بشارة إلى جنون الاسرائيليين من مواقفه الداعمة للمقاومة "أعتقد أنني ساهمت مساهمة مهمة في شرح موقف المقاومة عربياً وعالمياً"، وسبب انزعاج اسرائيل أن دعم المقاومة تجاوز الخطوط الحُمر في نظرهم، وبعد فشلهم قانونياً وسياسياً في مواجهة استراتيجية التصدي للصهيونية من خلال برنامج "دولة المواطنين"، تحركوا لتصفية "ظاهرة عزمي بشارة" كما وصفها الاسرائيليون.

وبعد حرب العام 2006، راح بشارة يشهد محاولات حزب الله للسيطرة على لبنان وتسخير نتائج الحرب للسيطرة على قوى سياسية عربية، "وشاهدت ذلك السلوك في المؤتمر القومي العربي ومع قوى عربية، وكيف تحولت حرب العام 2006 إلى أداة للسيطرة السياسية". ويعترف أنه ساهم في توصيف جانب من حرب 2006 على أنه انتصار للمقاومة، وفي رأيه إن اسرائيل أخفقت في تلك الحرب، لكنه ميّز بين إفشال العدوان والانتصار على اسرائيل "كنت أعرّف الانتصار في تلك الحرب كإفشال للعدوان". ولم يستوعب حزب الله هذه الانتقادات من قبل مثقف عربي حليف، له ثقله على المستوى العربي، خصوصاً في فلسطين. وبالنسبة إلى بشارة، فإن السبب يكمن في أن حزب الله حركة شمولية "لا تستطيع أن تختلف مع أحد في إطار التحالف إلا إذا كانت ضعيفة"، ويعيب بشارة على حزب الله والنظام السوري التعامل بعقلية الهيمنة على الحلفاء "كنت أجتمع مع الرئيس السوري وأمين عام حزب الله، وأتبادل الرأي معهما، لكني لم أقبل أن يكون التعامل معي من منطلق الاستفادة الأداتية". ويذهب بشارة أبعد من ذلك في تفكيك العلاقة "دولة يحكمها نظام ديكتاتوري وقفت إلى جانبها في دعم المقاومة، وفي رفض اتفاقات سلام غير عادلة، وفي التواصل مع الشعب السوري والشعب الفلسطيني الذي كان يعيش في سوريا". آنذاك أصبح النظام يطلق النار على شعبه، ويقصفه بكل الوسائل المتاحة بعدما عجز عن تلبية مطالبه، ويوضح بشارة لحظة وقوفه إلى جانب ثورة الشعب السوري "كنت أظهر يومياً في وسائل الإعلام للتضامن مع حرية الشعبين المصري والتونسي. فهل أقف مع الشعبين المصري والتونسي وأرفضها في حالة الشعب السوري؟". وفي الفصل الثامن من الكتاب الذي يحمل عنوان "الثورات العربية والمسألة العربية"، يستعيد بشارة تقييمه للتجربة في كتب ثلاثة: "الثورة التونسية المجيدة"، "سوريا: درب الآلام نحو الحرية"، ثم "ثورة مصر"، علاوة على كتابه "الثورة والقابلية للثورة"، والذي يتضمن فصلين مهمين عن المثقف والثورة. وكان تفاعل بشارة على درجة عالية جداً من التفاعل مع الثورات: "كان العام 2011 أعظم مرحلة مرت بها منطقتنا منذ حركات التحرر الوطني والاستقلال، وشعوري كان كمن يشهد حصول معجزة كبرى، وشعور تعاطف مع الناس ومحبة لهم".

في القسم الأخير من الحوار يعود بشارة إلى تجربة الكنيست، التي شده فيها حريته في التعبير وحقوقه كبرلماني إلى حدها الأقصى بعد حرب العام 2006، وأصبح من الصعب عليه العمل في داخل البرلمان، وهو المثقف والباحث والكاتب، وكان من الصعب التوفيق بين هذا كله والعمل البرلماني والعمل الحزبي والشعبي الانتخابي الذي يتطلبه وجوده في ذلك الموقع. ويقول أنه كان يخطط للاستقالة، لكن جاءت التطورات المعروفة والاتهامات الأمنية التي وجهوها له وهي "مساعدة العدو في زمن الحرب"، الأمر الذي سرّع اتخاذ قرار الاستقالة. وتراكمت وتصاعدت حملات التحريض ما بين الانتفاضة العام 2000 وحرب العام 2006، وكانوا يحاولون أن يصنعوا إجماعاً صهيونياً ضد بشارة، وصل إلى حد محاولة تصفيته فعلاً، وهذا أمر ليس من بنات المخيلة، بل أن الناشطة في مجال حقوق الإنسان والوزيرة السابقة شولاميت آلوني صرحت بأن أجهزة الأمن تحاول القضاء على عزمي بشارة. وفي التحقيق الذي أجرته معه الأجهزة، اعتبرت محادثات هاتفيه مع صحافيين وأصدقاء لبنانيين سجلتها أثناء حرب العام 2006 مع "وكلاء لعدو أجنبي". وقبل أن ينتهي التحقيق، تمكن بشارة من الخروج بدعوى استضافته لسلسلة مقابلات في قناة "الجزيرة" للتعليق على القمة العربية. ولم يعد بعدها إلى فلسطين، ويروي بشارة تلك اللحظات التي ذاق فيها "مرارة المنفى" على نحو مؤثر جداً "كانت فترة صعبة جداً. كنت في الحادية والخمسين، لا أفكر بالهجرة إطلاقاً، بل بالعيش في قرية والدي والتفرغ للعمل الفكري قدر المستطاع.. كان عليّ فجأة أن أقتلع نفسي وأن أبدأ من جديد..هذه هي اللحظات الأصعب التي تدرك فيها معنى الحرمان من وطنك". وبعد ذلك اتخذ قراره بالاستقالة من الكنيست في القاهرة. وفي الصيف الأول من المنفى، كما يصفه كاتب "المسألة العربية"، في بيت أعاره إياه أحد الأصدقاء، تلقى دعوات من بشار الأسد والرئيس اللبناني إميل لحود للإقامة في دمشق وبيروت، لكن "الحال استقرت في قطر، حيث تمكنت من تأسيس مركز بحوث، وحصلت على الدعم اللازم لذلك، وكذلك الحرية الأكاديمية اللازمة"، ومن بعد ذلك بناء العديد من المؤسسات البحثية والتعليمية والإعلامية. وهو يقدر ما قدمته قطر وقيادتها على جميع المستويات في تسهيل بناء هذا المشاريع، وأيضاً تمكينه من الاستقرار لمواصلة إنتاج الفكري. وبالمناسبة قال عزمي بشارة في هذا الكتاب أنه لم يعمل يوماً في قناة "الجزيرة"، وأنه لا يعمل مستشاراً لأمير قطر قائلاً: "أنا أقل من مستشار وأكثر من مستشار، أنا صديق".

في الفصل الأخير(الثالث عشر) من الكتاب يقدم بشارة جملة من التأملات حيال الحياة، ويتوقف أمام الغربة "الخروج من فلسطين جاء رغماً عني، لذلك أنا أعيش في غربة، وهذا هو المنفى. ليس فعل الخروج إلى العالم العربي بحد ذاته منفى، لأن العالم العربي وطني..الانتماء القومي يجعلني أصطدم بالواقع العربي، ولكي لا اصطدم بواقع لا أنتمي إليه، هكذا تحديد ينتج المنفى، وليس في المكان ذاته".

وقبل أن تنتهي رواية هذه "السيرة العاصفة"، كما أطلق عليها المؤلف في المقدمة، ما هي رغبات عزمي شارة؟ تجيب على ذلك الصفحات الأخيرة من الكتاب التي حملت عنوان "العودة إلى ترشيحا". هي أمنيات لا تتجاوز التقاعد في منطقة جبلية قريبة من البحر، في الجليل الأعلى المتاخم لحدود لبنان، في ترشيحا مسقط رأس الوالد، والتي احتلها الصهاينة في 30 تشرين الأول 1948. ويقول بشارة عنها "هي بالنسبة إلي انتماء عائلي، وفي الوقت نفسه تشكل التضاريس الطبيعية في ترشيحا جزءاً من هويتي بمعنى ما.. هي البيئة الأولى لي، وقرية فيها الكثير من الموسيقى".

وفي الختام يجيب بشارة على سؤال أبو فخر عن كتاباته الأدبية من شعر ورواية. يرفض أن يصنف نفسه بين الشعراء والروائيين. لم يطمح إلى ذلك، لقد اعتبرها دائماً نصوصاً ونثريات لا أكثر، لها معان عاطفية في مرحلة معينة، وشكلت نوعاً من العلاج الذاتي، كان يحتاجه حين كان العمل السياسي يتضمن الحاجة إلى تسويات مع الواقع للتمكن من التواصل مع الناس ضمن ظروفهم: "الفكر السياسي يتضمن تسويات مع الواقع، بينما الأدب يتيح لي كسر التسويات.. وكانت كتابة "الحاجز" و"حب في منطقة الظل" نوعاً من العلاج الذاتي". هو أولاً، وقبل كل شيء، باحث نقدي، يشخص الواقع الاجتماعي ويصيغ فرضيات ويفحص صحتها ويأمل أن يوفق في إنتاج أفكار نسقية مترابطة منطقياً تسمى نظريات.