محمد فارس... الأيقونة الممنوعة

محمد حجيري
الأربعاء   2024/04/24
قبل أيام، كتب الشاعر السوري، خضر الآغا، في فايسبوكه: "منذ الثمانينيات وحتى الآن لم يكفّ الكتّاب الجدد والقراء أيضاً في كل جيل عن التساؤل حول انعدام، أو شبه انعدام لبروز أسماء كبيرة على المستوى الشعبي في الرواية مثل حنا مينا وعبد السلام العجيلي، وغيرهما..."، يضيف: "لدي حادثة تختصر ذلك كله: في إحدى المسرحيات تمت طباعة بوستر لشخصية من شخصيات المسرحية، البوستر عبارة عن صورة الممثل فقط، وعلقها أصحاب المسرحية على أبواب مسرح الحمراء بدمشق وعلى مداخله ريثما يتحصلون على الموافقة. جاءت الموافقة بالرفض، ولدى السؤال والبحبشة عن سبب الرفض قالوا لهم إن هناك شخصاً واحداً فقط توضع صورته كبيرة في الأماكن، هو السيد الرئيس. من هنا نعرف سبب غياب أسماء كبيرة شعبياً، وليس للأمر علاقة بالإبداع وقوته".

لا جدال في كلام خضر الآغا، فهو مرآة للواقع السوري الأسدي، الذي يسمح بظهور النجوم شرط أن تكون شخصياتهم بوقية للنظام وتابعة ومسحوقة من الداخل، هذا ما أراده الأسد بشكل دائم، وهذا ما تعمل عليه أنظمة الاستبداد.

من باب المصادفة أنّ تعليق خضر الآغا أتى بالتزامن مع وفاة رائد الفضاء السوري محمد فارس. فمَن يقرأ سيرته، يجد تطابقاً مع التعليق أعلاه. فمحمد فارس يعد أول رائد فضاء سوري صعد إلى الفضاء في رحلة مشتركة مع الاتحاد السوفياتي العام 1987، ونال شهرة على الصعيد السوري والعربي، وانتقل إلى تركيا بعد بدء الثورة ضد نظام بشار الأسد في 2011.

لم يعد جديداً القول إن فارس في الأصل طيّار مقاتل على الطائرة "ميغ 21"، كما كان مدرباً للطيران، قبل أن يُختار لتمثيل سوريا إلى الفضاء الخارجي بعد اختبارات وتدريبات رياضية وذهنية خاضها في دمشق وموسكو، فقد اختير ليشارك في "رحلة وطن، لا رحلة شخص"، على حد قوله. لكن التفكير الأسدي يكمن في طريقة التعاطي مع نجاحه. فعند عودته إلى سوريا، استُقبل استقبال الأبطال والفاتحين، وقد ملأت الحشود الاحتفالية سوريا ثلاثة أيام بعد عودته، قبل أن "تصدر الأوامر بوقفها في اليوم الرابع". استغل النظام رحلة محمد فارس إلى الفضاء على الصعيد المحلي والدولي، "لكن عندما زاد الأمر عن حده، خصوصاً أن حافظ الأسد يريد أن يبقى الرمز الأول في الإعلام، أوقفَ الاحتفاء بفارس". وهذا من دواعي ما تسميه أستاذة ورئيسة قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، ليزا وادين، "السيطرة الغامضة"، إذ تقول في كتابها: "يصور حافظ الأسد في الخطاب السياسي السوري المعاصر، عموماً، على أنه حاضر في كل مكان وأنه عالم بكل شيء".

وحافظ الأسد حين التقى محمد فارس، صافحه، ومنحه وسام "بطل الجمهورية العربية السورية"، من دون أن يُقلّده الوسام. رافضاً أن يطوق عنقه به خلافاً للبرتوكول المعروف، في إشارة إلى عدم شعور الأسد بالرضا عنه. وحينما تحدث فارس عن دوافع ذلك قال: "لا أعلم ربما كان الأسد يريد ابنه باسل أن يصعد للفضاء بدلاً مني".

بعد ستة أشهر، استقبل الأسد باقي رواد الفضاء بعدما هبطت مركبتهم، لكن أوامر القصر كانت تقضي بألا يحضر الفارس اللقاء. كان التساؤل "أين محمد فارس؟".. وظل يراود الصحافيين حيناً من الدهر بعدما انقطعت أخباره تماماً.
نجومية محمد فارس جعلتْ حافظ الأسد يبقيه في منزله تسع سنوات بلا عمل، على الرغم من أنه طيار. كما تحدث فارس عن معاناته المادية، إلى الحد الذي كان يدفع زوجته إلى عدم الظهور في المناسبات الاجتماعية نظراً لسوء الأحوال المعيشية.

مآل الكلام أو مفاد ما حصل مع محمد فارس، يبقى هيناً، مقارنة بالذي حصل مع بطل الفروسية عدنان القصار، إذ ألقي القبض عليه في العام 1993، وأودع سجن صيدنايا ثم نقل إلى سجن تدمر. وكل جريرته أنه فارس ذهبي بحق، وكابتن المنتخب السوري للفروسية العام 1992... زجّ في السجن 21 سنة لأنه تغلب على باسل الأسد، في أحد السباقات، ووجهت إليه تهمة سياسية مفبركة. والسياق نفسه مع لاعب كرة القدم جورج مختار، والذي بدا أطول من حافظ الأسد في الصورة الملتقطة العام 1976 حين استقبل الرئيس فريق الجيش السوري بعد فوزه على فريق البحرين في مباراة النهائي في البطولة العربية التي استضافتها دمشق. فكّر الأسد أن يسجن الحارس لأنه ظهر في صورة أطول منه.

والنظام الأسدي بنسخته الأولى، كان يفرض على من يغني في سوريا أن يبدأ الغناء بموال للأسد، وعلى من يفوز بالرياضة أن يقول إن الفضل بفوزه يعود للأسد، والذي يبرز في الغناء يقول إن صوته جميل بفضل سيادته، والذي يقول الشعر عليه بقصيدة أسدية، من جوزيف حرب إلى الجواهري. هكذا احتل المشهد بتمجيد ذاته وتماثيله الرخيصة وجيشه المترهل وأتباعه الكثر. فالسوريون -كما تقول ليزا وادين- أُجبروا في وقت من الأوقات على "تطويع مواهبهم" لخدمة الدعاية الرسمية، فـ"الشباب لطالما دُعيوا للمشاركة في المسيرات التي تنظمها ما تُسمّى بالمنظمات الشعبية، والشعراء وأساتذة الجامعات والفنانون والكتّاب المسرحيون مطالبون، بشكل دوري، بالمساعدة في ترتيب الاستعراضات الشعبية وأن يسهموا في الحفاظ على مظاهر تعظيم الأسد، كما يُطلب من اتحادات العمال والفلاحين وأعضاء المنظمات المهنية أن يحيوا الشعارات والمظاهر التي تمجد الحزب والرئيس".