حضور الأقليّات في مهرجان "كان": عدالة أم عنصرية "إيجابية"؟

يارا نحلة
السبت   2024/05/04
نادين لبكي مصدر فخر لكثير من اللبنانيين، لكنّ نموذجها السينمائي معروف بنزعته الاختزالية تجاه الهوية والسياسة
تعرّض مهرجان "كان" السينمائي، في العقد الأخير، لانتقادات كثيرة، على خلفية افتقاره لأعمالٍ من إخراج النساء والأقليّات. فلأكثر من سبعة عقود، لم تفز سوى مخرجة واحدة بجائزة المهرجان الأولى، Palme D'Or، وكان ذلك في العام 1992. ولم يأت الفوز الثاني لمخرجة في هذه الفئة إلا في العام 2021. وأمام تهم التمييز الجنسيّ والعنصري، كان ردّ القيّمين على المهرجان بأن النزاهة الفنيّة هي فوق الاعتبارات السياسية والهوياتية.

وصل هذا الجدل إلى ذروته في العام 2018 بالتوازي مع حركة "مي توو" وفضائح هارفي واينستين، بما في ذلك اتهامه باغتصاب الممثلة آسيا أرجنتو في المهرجان نفسه العام 1997. هذه المستجدات وتداعياتها على المشهد الثقافي العالمي، دفعت مهرجان "كانّ" إلى الالتحاق بموجة التمثيل القائم على الهوية. فرأينا في العام نفسه (2018) لجنة تحكيم بغالبية نسائية برئاسة كايت بلانشيت، وهي من الشخصيات البارزة في حركة #Me Too. في الأعوام اللاحقة، استمرّت جهود تطهير تاريخ المهرجان من الهيمنة الذكورية والأوروبية عبر تقديم برامج ترعى التنوّع الجنسي والعرقي وغيرها من اشتراطات الثقافة الحديثة.

أمّا هذا العام، فتتألّف لجنة التحكيم التي ترأسها مخرجة فيلم "باربي"، غريبتا غرويغ، من أربعة رجال وخمس نساء، من بينهن المخرجة اللبنانية نادين لبكي، فضلاً عن كاتبة السيناريو التركية ابرو جيلان، والممثلة ليلي غلادستون المتحدرة من الأميركيين الأصليين. وتضمّ اللجنة أيضاً مخرجاً يابانياً، إلى جانب الأوروبيين من إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. 


بدقّة لا مثيل لها، تستوفي هذه الحسبة شروط التعددية الثقافية بصيغتها الحداثوية. فعدد النساء يفوق عدد الرجال بنقطةٍ واحدة، وكذلك عدد الأجانب مقارنةً بالأوروبيين، مع غلبة "لأصحاب البشرة الملوّنة" حسب التسمية الدارجة. أما في ما يخصّ الكوتا الفرنسية من أعضاء التحكيم، فذهبت التسمية لامرأة ورجل أسود.

في المبدأ، يقدّر هذا الجهد المبذول باتجاه تحقيق عدالة تمثيلية ونزع الهيمنة الثقافية عن الرجل الأبيض، عبر تسخير منصاته لتعزيز الأصوات التي لطالما تمّ تهميشها. لكنّ السؤال الذي لا مفرّ منه هو، ألا تتطلّب هذه المعادلة الدقيقة في احتساب العناصر الثقافية والهوياتية، تضحية بعناصر أخرى، كالجدارة والقيمة الفنية مثلاً؟

هو سؤال قديم يُستحضر كلّما طُرح خيار "الكوتا" أو التمييز الإيجابي. وما زالت الولايات المتحدة تخوض هذا النقاش منذ منتصف القرن الماضي، وقد ذهبت خطوة اضافية في هذا المجال عبر استحداث نظام affirmative action الذي يمنح اعتباراً خاصّاً للأقليات العرقية من حيث فرص التوظيف والتعليم وغيرها. وقد طاولته انتقادات كثيرة كونه يجعل الانتماء العرقيّ أولوية على الجدارة.

هذا التوجّه لم يعد مقتصراً على الولايات المتحدّة. إذ تبنّته النخبة الأوروبية بحذافيره، كما يبدو من خيارات لجنة تحكيم "كانّ"، التي تشكّل انعكاساً لخيارات هوليوود ونتفليكس. ويرى كثر أن المهرجان قد أصبح بمثابة فعالية تسويقية لهوليوود، مع استقطابه لرجال أعمال وعارضات أزياء ومؤثرين لا يملكون رأس مال فنيّ، وإنّما القدر الكافي من الثروة أو الشعبية التي تتيح لهم الاختلاط بفناني النخبة.

ومن هنا يأتي الاهتمام بفيلم "باربي" بعد النجاح التجاريّ الذي حقّقه. فقرّرت إدارة "كانّ" مكافأة المخرجة على إنجازها المتمثّل في إعادة تدوير علامة تجارية ذات عناصر بطريركية متأصّلة وتقديمها كرمز نسوي.

كذلك الأمر بالنسبة إلى غلادستون، وهي أوّل إمرأة من سكّان أميركا الأصليين، تفوز بالغولدون غلوب، ويتمّ ترشيحها في "الأوسكار". وبالتالي يأتي تعيينها ضمن لجنة تحكيم "كانّ" في سياق اعتراف هوليوود بها كممثّلة ذات خصوصية ثقافية. كما أن أكثر ما يركز عليه الإعلام في تناوله لسيرتها الذاتية، هو القبائل التي تتحدر منها ونشأتها في محمية هندية. في العام 2024، يأتي نجاح غلادستون كسابقةٍ ثقافية يحتفي بها العالم، وذلك بعد أكثر من نصف قرنٍ على الدراسات ما بعد الكولونيالية وسياسات التمييز الإيجابي.

ومع تحقيق سكّان أميركا الأصليين، أخيراً، إعترافاً سينمائياً بوجودهم، أوشك القطاع الثقافي على استهلاك كافّة الأوسمة من فئة "أوّل فنّان/ة". والحال أنّه سوف يضطر قريباً إلى إبتداع معادلات جديدة لمواكبة الهوس الهوياتي. من الوارد أنّ نراه مثلاً يخلط بين هويات مختلفة لتسجيل نقاط مضاعفة على مقياس التهميش.. "أوّل فنّأنة نصف عربيّة نصف أمازيغية مثلية مصابة بالتوحّد…" على سبيل المثال.

أمّا بالنسبة للبنانية، نادين لبكي، فيبدو أن السينما العالمية قد نصّبتها ممثلةً عنّا (لبنان، العالم العربي، المشرق، الشرق الأوسط، النساء،... أيّ من تلك الملصقات أو كلها). وذلك بعد ترشيح فيلمها "كفرناحوم" للأوسكار وحيازته على إحدى جوائز "كانّ". بالتأكيد، تشكّل لبكي مصدر فخر لجزءٍ كبيرٍ من اللبنانيين، وهذا مفهوم. لكنّ نموذج لبكي السينمائيّ، بنزعته الاختزالية تجاه الهوية والسياسة، هو موجّه أساساً للنظرة الغربيّة. وإن كان يعبّر عنّا بشيءٍ، فهو اهتمامنا بصورتنا أمام الغرب، ورؤيتنا لأنفسنا بعيونه.

وهذا ما يقودنا إلى إشكالية "الأصالة" التي يكثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة. فاتجاه "كانّ" مؤخراً إلى الانفتاح على السينما الآسيوية، والعالم-ثالثية بشكل عام، تمّ ربطه بالبحث عن سينما "أصيلة" غير أوروبية. أي بمعنى آخر، سينما من النوع الخام الذي لم تفسده تعقيدات الحضارة الأوروبية. ما عدنا نتحدث إذاً عن تمييز إيجابي فحسب، بل عن عنصرية "ايجابية" تبحث عن البدائي والايكزوتيكي لدى الآخر تحت مسمّى الأصالة. لكن، بمعزل عن عنصريته، يبقى هذا الطرح منقوصاً، إذ كيف يمكن الحديث عن أصالة لم تشوّها يد الغرب إن كانت عينه هي الهدف المنشود؟

في إحدى حلقات سلسلة الرسوم المتحركة، "ساوث بارك"، ينضمّ تلميذ أسود يدعى "توكن" إلى مدرسة بيضاء بغالبيتها. النكتة هي في اسمه، Token، والذي لا تَفيه الترجمة العربية حقه من الرمزية. فالـ"توكن" في اللغة الانكليزية هو الشيء الذي يمثّل شيئاً آخر، مثل هديةٍ تقدّم كعربون لشعورٍ ما، "من دون أن يكون لها جدوى عملانية"، بحسب تعريف قاموس كامبريدج.. أو قسيمة شرائية يمكن صرفها واستبدالها مقابل سلعةٍ ما. وقد تمّت استعارة هذا المصطلح للدلالة على ظاهرة التمثيل الرمزيّ والناقص للأقليات، والذي يتمّ عبر توظيف عدد قليل منهم كي يظهروا في الصور والفعاليات الترويجية للشركات.

يشكّل اليوم كثر من العاملين في مجال الثقافة والترفيه، قسائم شرائية تصرفها البرجوازية الغربيّة، مقابل رأس مال أخلاقيّ تغسل به ماضٍ حافلٍ بالتمييز والتهميش والتعالي. وبينما تدّعي معالجة الأطر المنهجية للتمييز، إلا أنها ممارسة ظاهرية، لا تعالج الأسباب الجوهرية، وهي أساساً اقتصادية وطبقية. في المحصلة، تحصل الشعوب والأقليات على تمثيلها. لكنّه تمثيل محصور في برجوازياتها "الشاطرة" في مخاطبة الغرب وإثارة فانتازماته الإكزوتيكية.