الإثنين 2022/01/03

آخر تحديث: 13:02 (بيروت)

عزمي بشارة "في نفي المنفى": المثقف في الزمن الصعب(1/2)

الإثنين 2022/01/03
عزمي بشارة "في نفي المنفى": المثقف في الزمن الصعب(1/2)
هنا تفاصيل ووقائع لم يتح له الوقت كي يسجلها بالتفصيل كما وردت في هذا الحوار
increase حجم الخط decrease
كتاب "في نفي المنفى" كتاب مهم، لأنه يلخص جوانب عديدة من تجربة مفكر عربي معروف هو الدكتور عزمي بشارة، بلسانه، فيمكن ان يجد فيه القارئ تلخيصاً لما يجمع بعض مكونات مشروعه الفكري من "المجتمع المدني: دراسة نقدية" وحتى "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" بمجلداته الضخمة الثلاثة، هذا مع العلم أن بعض اعماله الفكرية المهمة مثل الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، والانتقال الديموقراطي وإشكالياته، ما هي السلفية، ما هي الشعبوية.. صدرت بعد نشر هذا الكتاب. ويمكن لمن يبحث عن الخيط الجامع لهذه الأعمال الفكرية أن يجده في بعض أجوبة بشارة في هذا الكتاب، مع أنه لم يكتب بوصفه سيرة فكرية، فهذه المهمة الصعبة ما زالت تنتظر من يقوم بها. لكن ما يهمنا في هذا الكتاب هو تلك الجوانب التي تربط المناضل بالمثقف، فهي التي اهتم بها المُحاور السائل أكثر من غيرها، وأبدى بشارة استعداداً للإجابة عليها، لأنه لا يرد على الشائعات عادة، لا سيما تلك المغرضة التي يثيرها أتباع بعض الأنظمة المتضررة من انتشار الفكر الديموقراطي، فكانت هذه مناسبة لسرد بعض الحقائق. ولهذا يمكن اعتبار الكتاب عملاً مرجعياً للتعرف على مساره العام منذ الولادة في فلسطين العام 1956، وحتى لحظة إجراء الحوار الشامل معه من قبل الكاتب والصحافي صقر أبو فخر، وصدوره في كتاب تحت عنوان "في نفي المنفى.. حوار مع عزمي بشارة" العام 2017. وكان واضحاً من موافقة عزمي بشارة على إجراء هذا الحوار، أنه راغب في تلخيص هذه التجربة لأنه، كما قال في الكتاب، قرر التوقف عن العمل السياسي المباشر، وتخصيص جل وقته للعمل البحثي والفكري.


أجرى عزمي بشارة حوارات كثيرة، وقد نُشرت مقالات كثيرة في دراسة تجربته، لكن هذا الحوار يقدم صورة شاملة عنه، ويسجل خلاصات لمواقف وتجارب وأحداث، عاشها ومر بها، ويكشف تفاصيل ووقائع لم يتح له الوقت كي يسجلها بالتفصيل كما وردت في هذا الحوار الذي يأخذ حريته خلاله، ليتحدث من دون كلفة عن أشياء حميمة ولحظات قاسية وامتحانات صعبة مر بها وواجهها في فلسطين، منذ أن بدأ النضال السياسي في شبابه وحتى انتخابه للبرلمان (الكنيست) في العام 1996 والاستقالة في العام 2007، وهذه واحدة من أهم محطات بشارة الذي شكلت تجربته البرلمانية فاصلاً بين ما قبلها وما بعدها، خصوصاً أنه أدخل مفاهيم جديدة على الخطاب السياسي الفلسطيني في الداخل، في مسائل المواطنة المتساوية بوصفها نقيضاً للدولة اليهودية، وحقوق السكان الأصليين، والتمثيل العربي، وهنا سبب صدمة الإسرائيليين بخطابه الذي ذكر فيه للمرة الأولى في تاريخ الكنيست "حق العودة" و"النكبة". وفي ما عدا انتاجه الفكري المشهور والمعروف فعلاً للمتخصصين، يعد بشارة من أهم الذين قدموا أدوات لفهم المجتمع الاسرائيلي، وفي كتابه "من يهودية الدولة إلى شارون" يقدم تحليلاً للمجتمع الاسرائيلي، لا من منظور الصراع العربي الاسرائيلي فحسب، إنما من منظور صيرورته وبنيته على أرض الواقع، بتناقضاته الداخلية. ويقدم الكتاب دراسات عن معنى الدولة اليهودية، وفهم المجتمع والدولة وكشف مسألة الديموقراطية الاسرائيلية برمتها، ليس فقط بالتفسير المألوف عن أن الديموقراطية الاسرائيلية ليست ديموقراطية لأن اسرائيل دولة احتلال فحسب، بل من خلال كشف العلاقة بين الدين والدولة، ودور الجيش والإيديولوجيا في تكوينها. وعرض الكتاب لنموذج شارون كسياسي وعسكري ولد وترعرع في فضاء حركة العمل الصهيونية، وانضم الى الليكود لاحقاً، وبيّن أن القاعدة الاجتماعية لشارون هي نفسها قاعدة العمل الصهيوني، التي تولت قيادة الاستيطان الزراعي ذي الطابع العسكرتاري.

تكمن أهمية كتاب "في نفي المنفى" في أنه شهادة وافية تتجاوز تجربة الكاتب والمثقف إلى تقييم الحركة الوطنية الفلسطينية بشقيها في فلسطين المحتلة عام 1948، وفي الضفة الغربية وغزة والشتات. وتعد هذه الشهادة ذات قيمة استثنائية، لأنها من داخل التجربة لرجل عاشها وساهم فيها، ودرسها بأدوات الباحث والمشارك فيها. ومن هنا يمكن اعتباره بمثابة كشاف للخاص والعام، من خلاله وعبره يمكن الوقوف على التجربة الثرية والمتميزة لبشارة، وفي ذات الوقت ربط كل ما انقطع من خيوط في الحالة الفلسطينية منذ النكبة وحتى ما بعد الانتفاضة الثانية العام 2000. ويقدم فرصة لإعادة فهم ومعرفة إسرائيل وتحولاتها منذ إنشائها حتى اليوم، بنظرة معرفية سياسية سوسيولوجية، وقراءة الصهيونية وإيديولوجيتها العنصرية على نحو علمي معمق، بعيداً من القراءات السطحية التي سادت، وكانت من مسببات الهزائم العربية أمام دولة الإحتلال، وفي الوقت ذاته يفتح نافذة واسعة على الوضع العربي وقضاياه الفكرية والسياسية والنظرية. وبحسب ابو فخر، "يكتسب إجراء مثل هذا الحوار أهمية خاصة ذات طبيعة توثيقية وتسجيلية لشخصية فكرية وسياسية مهمة في المنطقة العربية".

يلتقط ابو فخر في تقديم الكتاب أفكاراً مهمة، تبدأ من بشارة المثقف النقدي صانع الأفكار غير المحايد، الذي يتطلع إلى الموضوعية لا إلى الحياد، بوصف الموضوعية انحيازاً للحقيقة كما يشرح ذلك أيضاً في مقدمة كتابه الذي يصدر قريباً بالانكليزية بعنوان "فلسطين: مسائل الحقيقة والعدالة"، مثلما يتطلع إلى التوازن بين الحرية والمساواة الذي يشكل تعريفه للعدالة في أكثر من مقالة نشرها حول الموضوع. باحث منتج للأفكار ومجدد إيجابي لم يركن إلى المألوف، بل قام بمراجعة في موضوعات مثل القومية والقومية العربية وأنتج فكراً جديداً في مجالات المجتمع المدني والدين والعلمانية والطائفية "غير متردد في تجاوز ما هو مألوف من أطر تحليلة ليشتق أطراً نظرية جديدة عند الحاجة.. كنت أنتج فكرياً وعلمياً، وأتدخل في السياسة، وأنفي غربتي في واقع مجتمعنا من خلال الممارسة العملية، ومن خلال الانتاج النظري النقدي".

وكما أسلفت، ليس الكتاب سيرة فكرية، رغم أنه يحمل بين طياته أجزاء من هذه السيرة، تفرض نفسها حينما يرجع بشارة إلى محطات سياسية أساسية في مساره، بل يتم تقديمه على أنه جردة لمرحلة النشاط السياسي المباشر، بعدما ختم نشاطه الحزبي وتفرغ كلياً للإنتاج الفكري والعمل الأكاديمي، وهذا لا يعني أن المفكر لن يكون حاضراً عند الحاجة لاتخاذ موقف، لأن هذا الفصل التعسفي غير وارد لدى بشارة المثقف الإنساني المتعدد الذي يعمل على أكثر من جبهة في الوقت ذاته.

يرسم الكاتب بورتريه لبشارة يبدأ من الولادة في مدينة الناصرة بفلسطين، وسط عائلة حيث كان الوالد المتحدر من قرية ترشيحا، مناضلاً نقابياً وشيوعياً سابقاً في عصبة التحرر الوطني، وكان موقف الاتحاد السوفياتي والحركة الشيوعية من قيام اسرائيل موضوع نقاش بين الأب والأبن "المتمرد على فكر الحزب من داخله". وفي آخر ايام حياته تحول الوالد إلى الموافقة على رأي ابنه بأن قبول الشيوعيين قرار التقسيم في تبعية للسوفيات كان خاطئاً، وكانت هذه المسألة وغيرها من القضايا الوطنية الفلسطينية موضوع معركة عزمي بشارة مع الحزب الشيوعي الاسرائيلي الذي غادره نهائياً في العام 1986 بعدما أنهى دراساته في ألمانيا، وعاد إلى فلسطين ليعمل محاضراً في جامعة بير زيت، غير بعيد من الشأن السياسي حيث شغلته أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية في الداخل وعملية الأسرلة التي كان عرب الداخل يمرون بها، فكانت المبادرة إلى تأسيس "حركة ميثاق المساواة" في 1992 التي طرحت مسألة "الدولة لجميع مواطنيها" في تضاد مع يهودية الدولة، أي في تضاد مع جوهر الصهيونية، وتلاها تأسيس تنظيم "التجمع الوطني الديموقراطي"، الذي رشحه لانتخابات الكنيست فانتخب نائباً أول مرة العام 1996، وأعيد انتخابه في دورات 1999، 2003، 2006، وقدم استقالته من الكنيست العام 2007 وهو خارج فلسطين، إلى السفارة الإسرائيلية في القاهرة، وفي الوقت نفسه، تعرض لسلسلة من المحاكمات من قبل السلطات الاسرائيلية، التي كانت تعد العدة لتلفيق تهم أمنية ضده لاعتقاله والقضاء على "ظاهرة عزمي بشارة". ومنذ ذلك الوقت، أقام في الخارج، وكانت محطته الأخيرة في الدوحة، حيث أسس العديد من المؤسسات البحثية والإعلامية. ويرى بشارة إن تجربة الكنيست كانت مهمة جداً على المستوى الشخصي، لا سيما أن الحفاظ على التماسك الوطني والأخلاقي أمام الواقع الصهيوني لم يكن سهلاً على الإطلاق.

البداية في الكتاب من "العروبة وفلسطين واليسار"، وتحمل إجابة صريحة عن سبب تلخيص تجربة بشارة السياسية في هذا الكتاب. ومما جاء في تفسير بشارة: "لأنني بصراحة قررت أن الأوان قد حان للتوقف عن العمل السياسي المباشر. لقد قمت بواجبي في هذا المجال..لست سياسياً بالمعنى السائد لمصطلح رجل السياسة، بل مناضل"، ويحدد دور المناضل في هذه الفترة، إذا توافرت لديه القدرات الفكرية هو "الربط بين الأخلاق والسياسة". والهدف من ذلك الإعلاء من قيمة المعايير الأخلاقية كموجه في العمل من جهة، وبالعقلانية في التفكير والتحليل والتشخيص من جهة أخرى. وحين يأتي حديث العروبة، لا بد من سؤال بشارة عن التحول نحو القومية، في وقت تحول فيه قوميون عرب إلى اليسار في الستينيات من البعث والناصرية، لكن لصاحب كتاب "أن تكون عربياً" الذي صدر في العام 2009 نظرة مختلفة " أنا لم أتحول من اليسار إلى القومية العربية، بقدر ما صححت نظرتي كيساري إلى القومية العربية..والصحيح أنني انتقلت من الشيوعية إلى اليسار، لأنني بدأت أدرك أن الشيوعية ليست يساراً، بل هي يمين في بنيتها الذهنية وممارساتها". ويفسر بشارة سبب انضمامه إلى الحزب الشيوعي بأنه لم يكن في فلسطين 1948 إطار حزبي يضم عرباً سواه (وإلى حد ما "حزب العمال الموحد"-مبام). ويبدو الخلاف قيمياً هنا، ويتعلق بالحرية والعدالة والاجتماعية وقضية فلسطين والديموقراطية والموقف من دولة إسرائيل "وكنت أشدد على أن الأنظمة الاشتراكية هي أنظمة استبداد، وليست يساراً..كانت شمولية، وتختلف عن النظام النازي او النظام الفاشي من حيث القيم التي قدستها، لكن البنية واحدة". ويمر في هذا السياق على حركة "ماتسبن" اليسارية حيث كانت "أغلبية الناشطين الذين يتصدرونها هم من عائلات ميسورة، في حين كان عالمنا هو عالم القرى الفلسطينية، ولم يكن خطاب هؤلاء يعنينا البتة إلا في حدود موقفهم الجذري من قضية فلسطين". وفي ما يخص التحول، هو عبارة عن شوط في مراحل التطور الفكري، حيث رأى بشارة مبكراً شأناً متقدما للقومية العربية، وتحديداً في مسألة الطائفية، فالقومية عابرة للطوائف، وتستند إلى ثقافة مشتركة، وإرادة الأمة في تقرير مصيرها، ثم إن "القضايا التي تشغلنا كانت كلها تقريباً قضايا عربية، مثل قضية الثورة وأنظمة الحكم والعلاقة بالاستعمار وقضية فلسطين". ومع التشديد على فكرة الانتماءين العربي والفلسطيني تنطرح مسألة تعدد الهويات"، هوية الفرد يجب ألا تقتصر على هوية واحدة، وهذا كان من الموضوعات التي تمثل تحدياً للفكر القومي العربي الكلاسيكي، الذي يعتبر القومية العربية هي الحل للهويات كلها". وطوّر بشارة موقفه في شأن القومية العربية في الفصل الأخير من كتاب "المجتمع المدني: مساهمات نقدية" (1996) الذي لم تكن القومية موضوعه، لكنه قام في نهايته بالربط بين الأمة والمجتمع المدني والتمييز بين القومية وأمة المواطنين، و"المسألة العربية" (2007)، و"أن تكون عربياً في أيامنا" (2009)، والخلاصة "إن اعتبار القومية موروثة، ويمكن البحث عنها في علم الأنساب خاطئ. فالعروبة ثقافة وذاكرة تاريخية وانتماء متجاوز للطوائف والقبائل". وللقومية بعدان، الأول، هوياتي إثني قد يكون متخيلاً، أي الانتماء إلى ثقافة مشتركة وتاريخ مشترك، بحيثت تبنى عليه طموحات سياسية تسمى قومية، والثاني سياسي يتمثل في التوق إلى السيادة في دولة، وهذا البعد هو الذي يحول الجماعة الاثنية الى قومية.

وفي ما يتعلق بالوطنية الفلسطينية، يرى بشارة أن الوعي الفلسطيني بدأ يتبلور في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، بدءاً برفص إعلان بلفور، واتضاح أهداف الاستيطان الصهيوني. وكانت بدايات الوطنية ظهرت في المؤتمرات الفلسطينية في العشرينيات، وبشكل خاص في ثورة 1936-1939، وآنذاك برزت مطالب فلسطينية واضحة مضادة للصهيونية والانتداب البريطاني، وكانت تشدد على رفض الهجرة اليهودية والانتداب البريطاني، وعلى الانتماء إلى سوريا. ويربط بشارة دائماً القضية الفلسطينية ببعدها العربي، وحين يتحدث عن تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، فهو يعتبر أنها تمت على أيدي مثقفين ونخبة فلسطينية قوامها أكاديميون وسياسيون سابقون مارسوا السياسة في الدول العربية بشكل حقيقي..ومعظم أفراد هذا الجيل كانوا قوميين عرباً ووطنيين فلسطينيين في الوقت ذاته. وكانت هاتان الهويتان منسجمتين في تكوينهما. أما في حركة فتح، فاختلف الأمر، ففيها جرى التشديد على الوطنية الفلسطينية، وهذا يعود إلى أنها حركة أبناء اللاجئين وهي ثنائية الهدف: تأطير اللاجئين وتحرير فلسطين. وفي النتيجة "لولا تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، ثم فصائل الكفاح المسلح، لكان هناك خطر على الهوية الوطنية الفلسطينية".

"سوريا الجرح الراعف"، هو عنوان الفصل الثاني من الكتاب، والذي يحيلنا إلى عنوان كتاب بشارة المرجعي عن الثورة السورية "سوريا: درب الآلام نحو الحرية"، الذي يكاد يكون الكتاب الوحيد الذي تناول الثورة السورية بكل تشعباتها خلال عامين من آذار 2011 وحتى آذار 2013. ويبدأ ابو فخر بالسؤال عن علاقة بشارة بالحكم في سوريا وحزب الله التي تعود إلى زمن بعيد قبل الثورة التي واجه بسببها التحريض الاسرائيلي، ومن ثم تأييده للثورة السورية، والذي واجه بسببه تحريضاً شرساً من النظام ومؤيديه. ويرى بشارة الأمر مركباً، فهو كديموقراطي عربي لم تكن لديه أوهام على النظام السوري، وكان يرى في نظام البعث استبداداً، ويقول عند تأسيس "التجمع الوطني الديموقراطي" وضعنا على جدول الأعمال الانفتاح على العالم العربي، ولم يكن متاحاً سوى البلدان التي أقامت سلاماً مع اسرائيل. وبالتالي كان الذين يزورون العالم العربي من مواطني فلسطين 1948 كانوا يقومون بذلك ليس بوصفهم فلسطينيين، وإنما بوصفهم اسرائيليين بجوازات سفر اسرائيلية، "وكنت اعتبر ذلك تطبيعاً مقلوباً، وامتنعت لفترة عن زيارة مصر والأردن بهذا الجواز. وطبعاً ما لبثت أن اعتبرت ذلك موقفاً غير سياسي". ويوضح أنه تلقى دعوتين ضمن وفود من الكنيست لزيارة سوريا فرفض ذلك، لأن السياق العام يتضمن رسائل سياسية، منها الانفتاح السوري لا على العرب بل على إسرائيل، وقبل أن يذهب هو، "ذهب عرب كثيرون من إسرائيل الى سوريا ومن الأحزاب كلها تقريباً، وكان ذلك بإذن اسرائيلي، واحتفت وسائل الإعلام الاسرائيلية بتلك الزيارات، التي رافقها مراسلو وسائل اعلام إسرائيلية بصفة شخصيةّ!". ويكشف أن الشاعر سميح القاسم كان في عداد أحد الوفود، ونقل إلى بشارة عتب وزير الخارجية في حينه، فاروق الشرع، الذي تساءل: لمذا لم يحضر عزمي بشارة مع أنه يمثل التيار القومي العربي؟ ونحن في سوريا نتابع مواقفه القومية. وجاءت الزيارة الأولى عن طريق دعوة من مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، للمشاركة في ندوة فكرية بعدم نشر المركز كتاب بشارة "المجتمع المدني:دراسة نقدية". وبعدها قام بتوجيه الدعوة وترتيب الزيارة إلى دمشق، نائب الرئيس السوري حينذاك، عبد الحليم خدام، الذي التقاه بشارة مرتين، وفاروق الشرع مرتين أيضاً، ولم تكن الزيارة بجواز سفر اسرائيلي بل بوثيقة سفر سورية، تصدرها السفارة السورية في القاهرة ولاحقاً عمّان، ونتيجة زيارات عديدة، نشأت علاقة مع شخصيات سورية فيها تشاور وتفاكر "وقدرت للأخوة السوريين استماعهم إليّ وسماع آرائي، مع أنني اعترضت على سياستهم الداخلية، لكن كعربي يعيش في الداخل ويمثل العرب في البرلمان الاسرائيلي، لا اعتقد أن موقعي كان ملائماً لجعل نقد الأوضاع الداخلية للدول العربية فوق قضية التواصل مع العرب، علاوة على الموقف من الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين". وحين يحاكم بشارة موقفه بمعايير الوقت الراهن يجد انه كان سليماً، "لا سيما أنه لم تكن هناك لحظة حرجة وصدام بين المواطنين والنظام". ويعتبر أن العلاقة ساهمت في تصليب موقف القادة السوريين، ووضعته على خلاف مع أجنحة في النظام تريد أن تعجل في عملية السلام مع إسرائيل بأي ثمن.

ويتحدث بشارة عن لقائه الأول بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الذي تركز في معظمه على الحديث عن التفاوض وحق العودة وهل تريد إسرائيل السلام؟ و"قلت إن اسرائيل تريد السلام بشروطها". وتعرف بشارة إلى بشار الأسد، في عهد والده، والتقاه مرتين في تلك الأثناء. وعن تلك اللقاءات مع المسؤولين السوريين نتجت عملية زيارات مواطنين فلسطينيين من فلسطين العام 1948 لزيارة أقارب لهم من اللاجئين إلى سوريا، والذين لم يروهم منذ حصول النكبة، وهو أمر يتوقف بشارة أمامه بفرح. ويقول "كانت سعادتي لا توصف لأني تمكنت من مساعدة جيل الأجداد والجدات في لقاء عائلاتهم قبل أن يفارقونا". وهذه المسألة عرّضته للمحاكمة في العام 2001 بتهمة تنظيم زيارات إلى "بلد معاد وفي حالة حرب" .

يضع بشارة وقوفه إلى جانب الثورة السورية في نصاب المواقف المبدئية، ويقول "لو كان الأمر يتعلق بالبعد الشخصي والعلاقات الشخصية، لاتخذت موقفاً مؤيداً للنظام"، الذي فتح له كل الأبواب في سوريا، وحصر المقابلات من الداخل الفلسطيني فيه وحده، وأصبح مرجعاً في قضية فلسطين، ويضيف: "لم تكن لدي مشكلة في سوريا، وكنت أتعامل مع الرئيس بشار الأسد مباشرة، ولم أكن آتي إلى سوريا كما يأتي عملاء النظام السوري...وأعتقد أني أفدت السوريين بالمشورة، وهم أرادو أيضاً علاقة مع مثقف ومناضل يحظى بصدقية". وهذا ما سمح له بأن يتحدث مع بشار الأسد عن قضايا الحريات، "لكنه قلما استجاب لملاحظاتي، وفي بعض الأحيان كان يستجيب للملاحظات التي لا علاقة لها مباشرة بالحقوق السياسية والحريات مثل تخلف الإعلام السوري، وتوجه السوريين إلى الإعلام اللبناني، وخطر ذلك في تعميق الطائفية داخل المجتمع السوري". ويستنتج بشارة أن الأسد كان متمسكاً بطريقة الحكم السلطوية الفردية، ومستعداً للانفتاح اقتصادياً مع الإبقاء على سلطة سياسية من النمط التونسي في زمن الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، و"هذا ما اكتشفته أثناء لقاءاتي الكثيرة معه..بشار الأسد على المستوى الشخصي ذكي، خلافاً لما يقال عنه، لكنه غير مثقف، مهذب، لكن هذا الشخص المهذب كان ديكتاتوراً مستبداً، وأصبح طاغية سفاحاً". ويسترسل بشارة في رسم بورتريه دقيق للأسد: "لا يبدي حساسية زائدة لآلام الناس ومعاناتهم. بدأت ألاحظ ذلك بقوة، بعدما تجاوز أزمة لبنان عقب مقتل رفيق الحريري..وخلافاً لحافظ الأسد، لم يكن عصامياً".

ونلمس في هذا الفصل أن ما يشغل بشارة هو سوريا البلد، الذي أحبه وبنى علاقات واسعه فيه مع مكوناته السياسية والثقافية، تجاوزت الصلات والصداقات التي ربطته مع شخصيات في السلطة إلى مثقفين ومفكرين، منهم شخصيات في المعارضة: "سوريا مكان تشعر فيه أنك في بلد عربي". وسمحت له الزيارات المتكررة بالتعرف على تفاصيل هذا البلد، ولمس أن النظام أخفق في "بناء أمة"، وأن الشعب السوري يعاني على نحو كبير "وعندما خرج السوريون إلى الشوارع، وأنا أعرف أن قضيتهم أعدل من قضية الشعبين المصري والتونسي من حيث مدى الظلم والقمع والإذلال، وكذلك مدى الفساد، فكان من الطبيعي أن أقف إلى جانبهم بالمبادئ نفسها، التي كنت أناصر بها المقاومة في لبنان وفلسطين، وهي التي جعلتني أتقاطع مع سوريا ثم الشعب السوري ضد الطغيان..عندما خرج الشعب السوري تغلب لدي الموقف المبدئي من الشعب السوري ونضاله وعدالة قضيته". واعتبر بشارة أن الحل في سوريا كان يجب أن يتم عن طريق الإصلاح التدريجي الأضمن والأكثر سلامة، ويعيد التذكير بما قاله بأن "النظام السوري إذا رفض الإصلاح فإنه يأخذ سوريا نحو المجهول، وحذرت من العنف لأنه سوف يشتبك في سلسلة واحدة مع الطائفية في العراق ولبنان".

لقد كانت تعليقات بشارة الإعلامية الأولى بعد الثورة، داعية للإصلاح ومحذرة من العنف والتدخل الخارجي، فقد كان يعرف تركيبة سوريا الاجتماعية وماذا ستكون تبعات الصدام العنيف. وحتى قبل الثورة، لم تخل العلاقات المتميزة من نقاشات علنية، فقد أعرب بشارة في التلفزيون السوري عن موقف ضد مشاركة سوريا في مفاوضات شبيردزتاون، ولاحظ أن بشار الأسد أصبح بعد العام 2007 أقل تواضعاً، وأصبح لديه بعض الغرور بعدما عادت دول العالم لتنفتح عليه بعد الحصار.. "ما عاد يستمع إلى أي نصيحة بعد العام 2007، وصار يؤمن بأن القوة تحل المشكلات كلها، وأن العالم لا يفهم إلا هذه اللغة".

ويجد "العرب في الداخل والتجربة البرلمانية" أهمية خاصة في الكتاب، وهي تحتل الفصل الثالث، والذي يبدأه أبو فخر بسؤال عن سبب خوض بشارة الانتخابات في العام 1996، ويأتي الجواب بالعودة إلى الفترة التي بدأ فيها العمل على ترسيخ الهوية القومية العربية والوطنية الفلسطينية في مواجهة الأسرلة، "وفي الوقت الذي بدأت فيه الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج تتجه نحو المصالحة مع اسرائيل، ذهبنا نحن نحو المواجهة". وهنا جرى طرح مسألة "دولة المواطنين" او "الدولة لجميع مواطنيها"، وكان كتاب بشارة "المجتمع المدني" الذي انجزه قبل هذه المرحلة وصدر العام 1996، بوصلته الفكرية، وكتب سلسلة مقالات تحت عنوان الخطاب السياسي المبتور (صدرت في كتاب عن مركز دراسات الوحدة العربية تحت عنوان العرب في إسرائيل رؤية من الداخل)، تحولت إلى برنامج للحركة الوطنية الفلسطينية. وبعد نقاش مع القوى السياسية، حُسم التردد في الترشح لانتخابات الكنيست، واستقر الرأي على ترشح بشارة، وتم الاتفاق على أننا "نخوض الانتخابات من أجل اكتساب منصة جديدة للعمل النضالي. الهدف إذن لم يكن الحضور تحت سقف الكنيست، أو أن ندخل في اللعبة السياسية الاسرائيلية..فالموضوع ليس أن تكون في الكنيست أم لا، بل استخدام هذه المنصة لموقف سياسي وطني غير اندماجي مع اسرائيل..والإنجاز أن نمثل عرب الداخل بخط وطني ديموقراطي، وأن نحافظ قدر الإمكان على التوازن النفسي الداخلي، حيث لا نمثل أدواراً لا تليق بنا، هذا هو التحدي الكبير في الحقيقة". وبالطبع التمكن من معالجة قضايا الناس الحياتية اليومية بحيث لا ينفصل الموقف الوطني عن هموم الناس، فيتم تهميشه بسهولة.

ويعود إلى تفصيل هذه النقطة أكثر في الفصل الثاني عشر "تجربة الكنيست والخروج من فلسطين" بأن للمواطنين العرب تمثيلاً في الكنيست مع المحافظة على الهوية الوطنية ومنع الأسرلة في الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ومواجهة محاولات التأسرل السياسي والثقافي. وقاد ذلك إلى سبب تأسيس التجمع الديموقراطي، كحزب عربي في دولة غير عربية، بهدف النضال من اجل مواطن متساوٍ في الحقوق، ومعنى ذلك أن تكون الدولة لجميع مواطنيها، وهذه "تسوية تاريخية مضمونها أن تكون حقوقي مضمونة كمواطن، وأن من حقي أن أنشئ مؤسسات تمثل الحقوق الجماعية والهوية القومية". ولا تقتصر أهمية التجمع كحزب في انشاء حزب في مواجهة الصهيونية، إنما بقدرته خلال حوالى ربع قرن على تغيير قواعد النقاش في المجتمع الفلسطيني المشتقة من الحقوق الفردية، وهي الهوية الفلسطينية وهذا الخطاب والمطالب والمصطلحات يستخدمها الشباب العربي غير التجمعي في الداخل، وهنا الأهمية. ويرى بشارة إن "المساواة لا يمكن أن تتحقق إلا إذا جرى نزع الصفة الكولونيالية عن إسرائيل، وهذا يعني أن الصراع القومي والمساواة على أساس قومي هو الأساس، لا المساواة والاندماج على أسس أخرى". وهذا يقود إلى تحليل السلوك السياسي لعرب الداخل الذين هم في رأي بشارة نموذج مركب: أولاً، إنهم سكان أصليون كانو أكثرية فأصبحو أقلية. ثانياً، إن قضية الفلسطينيين مرتبطة بقضية اللاجئين، فهؤلاء صاروا أقلية لأن الأغلبية صارت لاجئة. ثالثاً، هم يختلفون عن باقي الفلسطينيين في أنهم فلسطينيون ومواطنون في دولة اسرائيل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها