الإثنين 2024/04/08

آخر تحديث: 08:31 (بيروت)

الهوية والذاكرة في مذكرات الفلسطيني قسطنطين سيقلي

الإثنين 2024/04/08
الهوية والذاكرة في مذكرات الفلسطيني قسطنطين سيقلي
increase حجم الخط decrease
ينتهي قارئ كتاب "من عكا إلى تكساس" إلى أهمية خاصة لهذا النوع من الكتب، وهو عبارة عن مذكرات مواطن فلسطيني، يدعى قسطنطين أسعد سيقلي عاش في الفترة بين 1861-1928، والتي حققها ووضع حواشيها وقدم لها الكاتب تيسير خلف، وصدرت عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" ضمن إطار مشروع سلسلة "ذاكرة فلسطين"، التي تشكل إضافة نوعية خاصة في إطار الجهود والمساعي التي يعمل عليها المركز من أجل احياء وتسجيل وحفظ الذاكرة الفلسطينية في الماضي وحتى أيامنا هذه.

هو سليل عائة فلاحية جليلية متمسكة بتقاليدها، حطة، قنباز، عباءة، أسلحة فردية، خيل أصيلة من سلالة الكحائل. أصلها يعود إلى حوران، وعاشت ضمن ولاية سوريا العثمانية في الجليل الفلسطيني، ولعب الجيل الثاني منها دورا مهما في العمل التجاري والاداري والثقافي والترجمة، والمسرح الذي كان طريق تواصلهم مع الولايات المتحدة، والهجرة لاحقا الى هناك، في إطار الهجرة العربية المسيحية إلى أميركا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو ما يتطرق إليه في هذه المذكرات.

ولد صاحب المذكرات بعد عام من فتنة 1860، التي كانت سبباً في هجرة العائلة إلى أميركا في حدود 1909، وتوفي بعد عام من انتقال بلاد الشام إلى نفوذ أجنبي جديد، حيث تم توزيع سوريا الكبرى بين الانتدابين البريطاني والفرنسي، ودخلت في نمط جديد من المخاطر في طليعته الخطر الصهيوني في فلسطين. ولكن أهمية هذه المذكرات أنها من كتب التاريخ العائلي المكتوبة في عشرينيات القرن الماضي بين 1926 و1928، وكتبها السيقلي لأولاده، وبالتالي فهي هي غير موجهة، وجاءت على شكل حكايات وأخبار، بالاعتماد على الذاكرة، وعلى ما عاينه مدة حياته، بالإضافة إلى ما سمعه من والده اسعد سيقلي الذي هاجر بعائلته من الناصرة إلى عكا، التي كانت منفذا تجاريا لبلاد حوران، وما جاورها من البلاد الداخلية، وقد تم تدوينها قبل ظهور خطر الحركة الصهيونية، ومن هنا يمكن قراءة تفاصيلها بتجرد، ومن ذلك أن مسألة الهوية تقدم نفسها على نحو طبيعي ببعدها السوري العربي صاحب الأرض، وليس بسبب الخطر الذي شكله الخطر الخارجي، الذي عزز الإحساس بالهوية. ومن هنا يمكن قراءتها بمفعول رجعي كواحدة من السير النادرة لفلسطينيي القرن التاسع عشر، حيث شكلت الاحداث اللاحقة مثل ثورة عام 1936 ونكبة 1948، عوامل حاسمة في تبلور الهوية الفلسطينية.

رغم أن المذكرات تؤكد على أن مدن عكا والناصرة وحيفا، وباقي مدن الجليل وقراه هي جزء من فلسطين، إلا أنها لا تتجاوز في وعي الكاتب أنها اقليم جغرافي يشكل جزءا من أفق هوياتي أوسع يضم بلاد الشام بأسرها. وتبرز هذه الهوية عندما تعيد المذكرات هذه العناصر إلى مكوناتها. وكان يقدم نفسه على أن سوري عربي فلسطيني، هويته سورية بأفق عربي، وفلسطين اقليم جغرافي يشكل جزءا من أفق هوياتي أوسع يضم بلاد الشام. وتظهر في الحكايات قوة الترابط بين مدن فلسطين ودمشق وبيروت. وتبقى دمشق بالنسبة للسلطنة العثمانية المركز السياسي، بينما تستفيد بيروت من هامش انفتاح أكثر في تلك الفترة بفضل تعددها الطائفي من جهة، ومرفئها الذي يربطها بالعالم.

تعد المذكرات مهمة جدا بالنسبة لتاريخ منطقة بلاد الشام التي تتشكل من سوريا الكبرى، التي تواجه أغلبية دولها اليوم أوضاعاً مصيرية. سوريا تعيش مقسمة بين مراكز نفوذ دولية، بين روسيا وتركيا وإيران، وملايين من شعبها مهجّرون، وتعاني من خطر المشاريع الخارجية التي تهدد هويتها ككيان. وفي فلسطين ينتقل الاحتلال الاسرائيلي إلى مرحلة جديدة من حروب الابادة والتدمير وتوسيع الاستطيان والتهويد، وهناك مخاطر التهجير الماثلة في قطاع غزة. وحال لبنان لا يقل بؤساً بسبب التدخلات الخارجية وخصوصا الإيراني.

نقطة التقاطع بين الحاضر والماضي هي أن الهوية السورية في ذلك الحين شكلت رداً على الهوية التركية الطورانية التي كان يراد تعميمها على عرب الدولة العثمانية. ولسنا بعيدين اليوم عن تشابه في المصائر، ذلك ان الاحتلال الاسرائيلي يتقاطع بقوة مع تقسيم سوريا الكبرى بين مراكز النفوذ، وتكمن المصلح المشتركة في إبعاد العامل الهوياتي لتسهيل السيطرة على المنطقة.

واللافت في هذه المذكرات، كما في غيرها عن تلك الحقبة الصعبة، هو نشوء المدارس والجمعيات الثقافية، وكانت أول جمعية ثقافية تأسست في فلسطين عام 1880 على يد راجي سيقلي شقيق قسطنطين كاتب المذكرات، ومنها ولدت الفرقة المسرحية الأولى التي سافرت إلى شيكاغو عام 1893، وبعد العودة من هناك سعى إلى تأسيس مجلة عربية فكاهية ساخرة سمّاها المؤنس، متخصصة بفن الكاريكاتور، واستطاع أن يحقق ذلك في القاهرة في مطلع القرن العشرين. ولم يهاجر إلى الولايات المتحدة لو لم تشهد المنطقة تطورات متسارعة، بسبب ما عرفته الدولة العثمانية من تدهور سريع على أبواب الحرب العاليمة الأولى. ونمو نزعة التتريك والقمع خلال فترة جمال باشا.

هناك جانب مهم في المذكرات يتعلق بفلسطين في تلك الحقبة على مستوى العلاقات الاجتماعية، والتجارة والفنون الشعبية والتراث والطعام، وتشهد التفاصيل التي يوردها صاحب المذكرات على قوة المكان، وتقدم أهله وعلاقتهم مع الأرض وشؤون الملكية، التي لا يرِد فيها ولا مرة ذكر لوجود اليهود في فلسطين، لا في التجارة أو ملكية الأراضي أوالعقارات المعروفة، أو لعب دور في الطب والتعليم والزراعة، وتأسيس المصانع الصغيرة، والاستيراد والتصدير.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها