وليد صادق لـ"المدن" عن فنون أزماتنا:لا نحتاج علاجاً..بل تاريخاً(1/2)

حسن الساحلي
السبت   2020/11/21
كيف نعجن انفجار المرفأ في التاريخ؟
ينتمي وليد صادق إلى الجيل الأول من فناني ما بعد الحرب، والذين عملوا ضمن ممارسات الفن المعاصر التي لم تكن مألوفة بعد في لبنان، كالفن الأدائي (الذي يضم المحاضرات)، التجهيز، الفيديو، والرقص المعاصر. عُرضت أعمال هذا الجيل ضمن فعاليات خصصت للتجريب مثل "مهرجان أيلول" الذي شارك صادق في تأسيسه، وجذب عيون فاعلين ثقافيين من الخارج، وجمعية "أشكال الوان" التي تحولت مع الوقت إلى إحدى مؤسسات الفن المعاصر الأكثر تأثيراً في المنطقة. قدّم صادق في مسيرته عدداً من المعارض الفردية والجماعية بين لبنان والخارج، عرفت باختزاليتها من ناحية الشكل وقدرتها على تحويل المتفرج إلى جزء من السياقات التي تنتجها. لكن عمله الأساسي يبقى مرتكزاً على الكتابة، التي رآها ممارسة فنية لا تقل أهمية عن الفنون الأخرى، وقدم منذ منتصف التسعينات حتى اليوم عشرات المنشورات والكتب النظرية (اختلفت أحجامها وأشكالها وأساليبها)، وضمّت نقداً للأفكار والمفاهيم التي قامت عليها إيديولوجيا السلم الأهلي، التي هيمنت على مرحلة ما بعد الحرب... إن كان في الثقافة العامة أو في عالم الفن (مثل نظرية التروما، العدالة الإنتقالية، مفهوم الفقدان، الحداد، إيديولوجيا الأمل والمستقبل، الحاضر المؤقت، مفهوم الضحية...). وساهمت هذه النقاشات، خلال بعض المراحل، في توجيه الخطاب ضمن أوساط الفن المعاصر، كما قدمت تأريخاً بديلاً للإنتاج الثقافي في لبنان.


أجرت "المدن" حواراً مع وليد صادق، يتناول المرحلة الحالية، بوجوهها المختلفة وأزماتها وتأثيراتها في عالم الفن. هنا الجزء الأول من الحوار:

- بعد الأزمات المتلاحقة التي انتهت بانفجار المرفأ، يشعر اللبنانيون أن المستقبل غير واضح المعالم وضبابي، وبأن كل شيء فقَد معناه. هناك من يقول إن ما نعيشه يشبه حقبة التسعينات التي كنت فاعلاً خلالها مع جيل من الفنانين اللبنانيين. هل تعتقد ذلك؟ وكيف ترى هذه المرحلة بشكل عام؟

في العام 1992، بعد وقت قصير من عودتي إلى لبنان قادماً من الولايات المتحدة، صوَّرت قناة MTV الأميركية برنامجاً عن بيروت، استضافت فيه مجموعة من الفنانين اللبنانيين، بينهم فنان اسمه بسام قهوجي. أتذكر من بين مشاهد البرنامج، مقطعاً يظهر بسام داخل المرسم الخاص به وهو يطرح تساؤلاً بسيطاً أمام الكاميرا: "والآن، ماذا نرسم؟"...
لم يمر وقت طويل قبل ان يقرر بسام التوقف عن الرسم وتقديم المعارض نهائياً، من دون رغبة في المشاركة في موجة الفن المفاهيمي والتجهيز التي راجت في بيروت خلال تلك الفترة. شعر بسام حينها أنه لا يمتلك حيزاً في المدينة ومشهدها الفني.. رغم بقائه ضمن جو الفنانين، وتصميمه الكتب والمنشورات من وقت إلى آخر.
منذ أسابيع، غيّر بسام رأيه، وقرر تقديم معرض في "غاليري أجيال" ضم مجموعة كبيرة من اللوحات التي ملأت الطابقين الأول والثاني. وضعت اللوحات بلا إطارات، بطريقة تجعل المعرض يبدو وكأنه محترفه الخاص. لا موضوع أو سردية معينة للأعمال، فقط لوحات تجريدية صغيرة الحجم، مع خطوط أفقية وعمودية بالآكليريك والحبر. اللافت أن المعرض بيع بأكمله تقريباً، والأشخاص الذين اشتروا، لا يمكن اعتبارهم من الأغنياء.
عندما زرتُ المعرض، تساءلتُ عن سر هذه العودة والرغبة في البناء من جديد. الغريب أن الطاقة انتقلت إليّ أيضاً وصرت راغباً في العمل بعد توقفي أكثر من أربع سنوات.
لا أعرف إن كان هذا المعرض شكَّل مدخلاً للتفكير، بأن استهلاك الفن أحياناً يمكن أن يأتي من أمكنة غير متوقعة. مثلاً في مرحلة مثل التي نعيشها اليوم، تظن للوهلة الأولى أن الفنانين سيقدمون أفلاماً وثائقية وتجهيزات متصلة بوسائط ميديا معقدة، لكن يأتي شخص - ملتزم بالبلد مثل بسام – ببساطة أعماله وتجريديتها اللا سردية، ليجد مكاناً له. طبعاً السرد لم يعد له مكان، وأصبح قصة تعجز عن قول شيء. فالناس، كما تعلم، تعبّر يومياً، وتقول كل شيء عبر وسائل التواصل الإجتماعي. لكن الكلام يمكن أن يصبح غلواً أيضاً مع الوقت (لا أقصد تعدد الآراء).



- هل تعتقد ان الإنفجار كان سبباً لعودة بسام قهوجي للرسم؟

لا. عاد للرسم منذ سنتين أو ثلاث، لكن ما حصل من أحداث مؤخراً، من الإنتفاضة إلى الإنهيار الاقتصادي والإنفجار، ثم تسارع وتيرة الهجرة وإغلاق المؤسسات الفنية، لعب دوراً في عودته.
حتى تقديمه المعرض في غاليري "أجيال" الذي فتح أبوابه مع انطلاقتنا العام 1992، والذي أشعر أنه يشبه الرصيف أو غاليري الحي، بغض النظر أن صاحبه لاعب في المجال الفني، لا يمكن تجاهل دلالته.

- تقصد مقارنته بالغاليريهات الفخمة والبراقة التي ظهرت مع توسع المجال الفني خلال العقد الماضي؟

بلا شك، هناك تفاوت بين حجم (Scale) تدهور المجتمع والدولة، وزهو الفن بشكل عام. في البداية لم يكن عندنا سوى "زيكو هاوس" و"مسرح بيروت" الذي كان يديره الياس خوري، بالإضافة إلى أمكنة قليلة أخرى. ما زلتُ أذكر عندما بدأ المنسقون الفنيون Curators بالمجيء الى بيروت ابتداءً من العام 1997، كيف أدى ذلك إلى حصول ارتباك بين الفنانين. في ذلك العام، كتبت نصاً في الملحق الثقافي حول "كيف تصنع الحرب الأهلية نجوما بالفن وكيف يستعمل الفنانون الحرب الأهلية". كان السؤال السياسي الأخلاقي يطرح نفسه يومها: كيف تكون فناناً بعد حرب أهلية؟ ليس فقط من ناحية المواد أو الموضوع، بل أيضاً من ناحية سلوكياتك وعلاقتك مع عالم الفن؟ مثلاً، هل تقبل دائماً دعوات السفر؟ وفي حال كانت أعمالك من النوع الذي يسافر دورياً، هل تضع الحرب كخلفية، وبالتالي تعطي لعملك جاذبية؟ أم أن عملك فعلاً مشغول بالوضع؟ وفعلياً، كيف تُقرأ أعمالك في الخارج؟
جميعنا مررنا بتجارب شبيهة. مثلاً، قدمتُ مرة معرضاً انتقل بين بلدان عديدة، ضم حينها قطعة بعنوان "الآخرون"، وصورة تظهر قدماً تبدو من بعيد شبيهة بفخذ الدجاج، وضعتها فوق شرشف أسود. يومها، كتب ناقد فني– كنت قد تعرفت عليه ووجدته مثقفاً - عن الصورة، لكن من منظور غربي. ما لفت نظره هو وجود شَعر على القدم، بالتالي قرر التحدث عن الذكورية في المنطقة العربية... عملياً، تكلم من خلال همومه الشخصية وليس همومي.
انتبهتُ يومها أنه من غير الكافي أن نصنع فنّاً، بل علينا أن نكتب عنه. الاستيتيك الخاص بنا كان مألوفاً للعين الغربية، لكن مواضيعنا كانت مختلفة. لذلك، كتبنا كثيراً، كي نتمكن من توجيه عملنا إلى أمكنة معينة، لكن بقي هذا السؤال يطرح نفسه: هل هناك أشخاص من جيلي سافروا الى الخارج ونجحوا، بينما مجموعة أخرى من الفنانين لم يسافروا كثيراً وربما نجحوا أقل؟ الأسئلة ما زالت موجودة وأجوبتها غير واضحة دائماً. لكن، في كل حال، اليوم لم يعد العالم مهتماً بالفن في لبنان كما في السابق... ولولا محاولات تعويم المؤسسات الفنية اللبنانية من قبل صناديق الدعم العربية، لكان الوضع أسوأ بكثير.

- متى توقف هذا الإهتمام بالحرب اللبنانية برأيك؟

اعتقد مع اغتيال الحريري وحرب تموز 2006. طبعاً، حصلت في مراحل لاحقة محاولات لجمع الأفكار، لتنظيمها وشرحها. لكنك اليوم لم تعد قادراً، مثلاً، على طرح الأسئلة التي أنتجها المفقودون (في الحرب) حول الذاكرة أو العيش مع الغياب، وللأسف هذه الأسئلة لم تتم الإجابة عنها مجتمعياً وسياسياً، لكن إن عُدتَ لطرحها في الفن اليوم، فستبدو مثقفاً فوق اللزوم erudite.

- هل تعتقد أن حدثاً مثل انفجار المرفأ يمكن أن يكون موازياً لحرب أهلية من ناحية دفع الإهتمام مجدداً بالفن اللبناني؟

خلال التسعينات كان استعمال نظريات الصدمة "تروما" Trauma Theory مع الفنون البصرية، السينما، والروايات التي كتبها اللبنانيون الفرانكوفونيون، هو من اجل إيجاد مدخل للتكلم عن الحرب. لكن ما ترتب على ذلك، هو تحويل الناجين Survivors إلى أشخاص غير قادرين على تمثيل الحدث، وإنما كل ما يقومون به هو مجموعة من العوارض symptoms تعيد الحدث لكن بطريقة مغايرة  re–act. خلال تلك الفترة، عندما كان عملي ما زال يتبلور، كنت غير موافق على هذه النظرية. طبعاً، يمكن أن تشكل الحرب تروما على مستوى الأفراد أو المجموعات، لكن السؤال كان، هل يمكن أن تشكل تروما على المستوى التاريخي؟
ما كان يقدَّم في الخارج مع فنانين مثل وليد رعد، أكرم زعتري، جلال توفيق أو ربيع مروة، كان يتم التقاطه مباشرة في سياق نظرية التروما هذه، المعروفة في عالم الفن، إن لم نقل مهيمنة وسائدة الى حد كبير. هي نظرية واسعة تطورت بعد الحرب العالمية الثانية وإبادة اليهود... لكن، في رأيي، الحروب الأهلية هي "حيوان آخر"، يتعلمها الناس في البيت والمدرسة والمعبر، ولا تشكل انقطاعاً صادماً traumatic. كما ان الإجتماع اللبناني لم يتوقف يوماً عن قدرته على التمثيل to present ولم تنكسر اللغة يوماً عنده. لذلك، في رأيي، إن لم تكن الحرب قادرة على تشكيل تروما على المستوى التاريخي، كيف يجب التفكير فيها؟ من هنا حاولتُ الإنطلاق لتقديم طرق أخرى للتفكير في الحرب الأهلية ...
لكن، لنعُد هنا الى السؤال الأساس: "هل الإنفجار يشكل تروما على المستوى التاريخي؟".. أنا متأكد أن هناك من سيجيب بنعم، وسيؤكد لنا أن الحدث يشكل انقطاعاً، وبالتالي سنتحول نحن إلى مجرد عوارض، نريد قول الأشياء لكننا غير متأكدين كيف. وهناك من سيقول كلا، وسيكون مستعداً للتفكير في الحدث ضمن سياقه. المشكلة أن هناك فنانين يستعملون تعبير التروما لوصف حدث عنيف، من دون الإنتباه إلى أن التعبير يعني نظرية واسعة ومركبة، في حال أردت الدخول فيها، ستنقلب عليك، وستكون نهايتك إما ناجياً أو ضحية. نحن نعرف انه خلال السنوات الثلاثين الأخيرة تقريباً، الموقع الوحيد المتاح للبشر الذين يعيشون خارج المركز، هو أن يكونوا ضحايا. بالتالي تُقدّم لهم المعونات، وتهتم المنظمات غير الحكومية بتأمين حاجياتهم. في الوقت نفسه، يُمنع على هؤلاء أن يكونوا في موقع الفاعل تاريخياً... وإذا أمسكوا السلاح، كما حصل مع السوريين، لا يمكن أن ينظر إليهم كثوار، بل كأشخاص تؤدي خطواتهم المتهورة إلى حرب أهلية.
لذلك كنت دائماً أقول خلال النقاشات مع الفنانين بعد الحرب، إنكم تحولوننا إلى ناجين وضحايا بينما نحن في حاجة إلى تاريخ (أو بالإنكليزية We don’t need therapy We need History "لا نحتاج علاجاً، بل نحتاج تاريخاً").. ينطبق هذا على انفجار المرفأ، الذي أخشى أن يصبح بمنظار سائد، تروما تاريخية، ما يعيدنا إلى الدوامة نفسها. المطلوب اليوم أن نعيد عجن الحدث في تاريخنا الحديث. أعترف بأنه من الصعوبة مقاومة التيار السائد، لأن كل شيء حول هؤلاء يقول لهم "كونوا ضحايا ونحن نتكفل بمساعدتكم".

- هل تعتقد أن الإنفجار يمكن أن يساعد في تعويم الفن اللبناني مجدداً؟

نعم، لأنه الطريق الأسهل. غالباً، يتم التقاطك بسرعة في الخارج عندما تظهر أنك قادم من حرب ومآسٍ وانفجارات. يطلبون منك أن تخبرهم كم أنت ضحية وكم أنت صامد، ولأي درجة تجيد التأقلم مع الصعوبات. هي مثل جعبة من الصفات التي تستطيع أن تجعلك مرئياً، وإن رفضتها، دفعتَ الثمن، أو ببساطة لا تصبح نجماً. سيحترمون عملك ربما، لكن أعمالك لن تُعرض في المتاحف. طبعا هو تحدٍّ أن تقف بمواجهة هذا التيار، لأنك ستواجه ردود أفعال عنيفة وعاطفية من البعض: "كيف تقول إنها ليست تروما؟" ثم يبدأ بإخبارك قصته القاسية. كيف ستقول لهؤلاء إنك تحترم تجربتهم، وهي بلا شك تشكل تروما على المستوى الفردي، لكن ما تقصده إنها لا تشكل تروما على المستوى التاريخي. من الصعب التكلم مع الناس حين تكون موجوعة، وكنت أواجه دائماً هذا النوع خلال النقاشات التي كانت تحصل بعد الحرب. (يتبع...)