بول أوستر: العائلة وطقوس الكتابة وأشياء أخرى

المدن - ثقافة
الأربعاء   2024/05/01
ما قل ودل من فسبكات عن الراحل الكبير، الروائي الأميركي بول أوستر، الذي رحل في 30 نيسان/ابريل 2024 عن 77 عاماً بعد إصابته بالسرطان.

أحمد سعداوي Ahmed Saadawi
توفّي في نيويورك يوم أمس واحدٌ من كتّابي المفضّلين؛ بول أوستر عن عمر ناهز 77 عاماً.
تعرّفت على أدب بول أوستر في التسعينيات، بالمصادفة، حين وقعت في يدي روايته "بلاد الأشياء الأخيرة"، وكانت واحدة من أكثر تجارب القراءة إثارة، لأسباب منها؛ أن الرواية ذات خيالٍ جامح، بخلطة من السرد الواقعي المتقشّف لهمنغواي، مع غرائبية أدغار آلان بو وفانتازية بورخيس. وما هو أكثر إثارة: وكأن الرواية تتحدّث عن العراق المحاصر، ورتابة التكرار في حياةٍ تأكل نفسها.
قرأت بعدها عمله الأشهر "ثلاثية نيويورك"، وغدا من يومها واحداً من كتّابي المفضّلين الذين أتتبع أعمالهم دائماً. وكم كان مثيراً عندي، مع فرح طفولي، أن يختار القراء في 2018 في أميركا روايتي بجوار رواية أوستر (4321) من بين أفضل الكتب في وقتها.
منذ أشهر وأنا أتتبع أخبار أوستر، بعد اعلان مرضه، حتى أني سألت تطبيقات الذكاء الصناعي أكثر من مرّة، بهاجس من يسأل عرّافاً أو ساحراً عن الوضع الصحي لأوستر، حتى فاجأني خبر موته اليوم.
نقرأ من الفصل الأول في رواية "بلاد الأشياء الأخيرة" :
(هذه هي الأشياء الأخيرة. ترى منزلاً في اليوم الأول، وفي اليوم التالي يضمحل. شارعُ كنت اجتزته البارحة ما عاد موجوداً اليوم. حتى الطقس في تحوّل متواصل. نهارٌ مشمسٌ يليه نهارٌ ماطر. نهارٌ مثلجٌ يتبعه نهار ضبابيّ، حرّ ثم برودة، ريحُ ثم سكون، فترة صقيع مرير، وبعدها اليوم، وسط الشتاء، بعد ظهيرة عطرة الضوء، وحارّة الى درجة أنك تستطيع الاكتفاء بارتداء كنزة... لا شيء يدوم، هل تفهمني؟!.. ولا حتّى الأفكار في داخلك.)
لا شيء يدوم.. وداعاً بول أوستر.

ليلى عبدالله
يتحدث بول أوستر عن طقوسه: "أترك مقعدي وأقف كثيرًا خلال اليوم. أظل أذرع الغرفة جيئة وذهابًا، وبشكل ما، أجد أنّ ذلك يساعد في توليد الأفكار والكلمات، لأن هناك دائمًا ذلك النوع من الموسيقى داخل الجسد، وأعني هنا موسيقى اللغة. وأثناء هذا التجوال تولد أفكار جديدة قد لا تُخلق أثناء جلوسي.
اليوم الذي يتسم بالإنجاز هو الذي أعمل خلاله لمدة ثمان ساعات، وتكون حصيلته تقريبًا، صفحة واحدة مطبوعة، نعم، صفحة واحدة فقط! إن تمكنت من كتابة صفحتين، فسيكون ذلك رائعًا، أما إنجاز ثلاث صفحات، فذلك أقرب إلى المعجزة، وهو أمر إن حصل، لا يتكرر إلا أربع مرات في السنة الواحدة تقريبًا".
ومتحدّثًا عن فترات اشتغاله برواية 1234. كان في السادسة والستين أثناء كتابته للرواية، في السن نفسها خسر والده، لدرجة كان يعتريه ذلك الشعور الغريب بأنه في طريقه ليبلغ عددًا من السنين أكثر من العمر الذي بلغه والده: وكأنك تمر عبر ستارة لا مرئية إلى الجانب الآخر من حياة أبيك!
كما آمن بإن وحدة الإنشاء في الشعر هي البيت الشعري، أما في النثر فهي بالنسبة لي الفقرة". ويطلق على عملية إعادة الكتابة ب(الجَرف)، لأنها تشبه طريقة جرف أوراق الشجر المتساقطة على المرج، لصبح أجمل.

Abdulwahab Alhammadi
لأن "الحياة قصيرة، وهشّة، ومحيّرة" كما قال.. رحل بول أوستر وتركنا للهشاشة والحيرة وطبعاً.. أوستر الذي أمتعني وعلمني مثلاً أن"الدرس غير القابل للجدال الذي تعلمه في ذلك الصباح يفيد أنه يمكن لجمهور ما التعبير عن حقيقة دفينة، قد لا يجرؤ فرد من أفراده على التعبير عنها على مسؤوليته الخاصة".. وجعلني أدرك معه "‏بأن العالم قائم على مملكتين، مرئية وغير مرئية. وأن ما لا يستطيع رؤيته أكثر حقيقية مما يراه". و"لايصلح الأوغاد ليكونوا أصدقاء يعتمد عليهم، ولكن فكر كم ستكون الحياة مملة دونهم". ووقفت عند علامة الاستفهام مطولا.. "أنستطيع عيش هذه الحياة دون ضحك؟ هل يمكننا؟" وإلى الآن لا أتفق معه تماما بأن "الذكاء هو الصفة البشرية الوحيدة التي لا يمكن تزييفها"، لأن ذلك النيويوركي لم يسمع بالتغابي ربما.. أو مارسه وهو يكتب هذه العبارة.. أو لأنني أحد من وصفهم "أنت أحد هؤلاء الرجال الذين لايستطيعون أن يروا الغابة بسبب الأشجار".. لكنني أتفق تمام الاتفاق مع الزميل الروائي لما قال ‏"كيف يمكنك تعلم أي شيء، إذا اكتفيت بالتحدث إلى الناس الذين يفكرون بطريقتك؟!". وفي النهاية فل وهو على يقين "بأن ‏الرواية لم تتمكن من صد رصاصة لتمنعها من قتل نفس بريئة، الرواية لم تقدر على منع قنبلة من الانفجار وسط مدنيين أبرياء". ارقد بسلام يا بول ابن أوستر. وأنا أكتب لك هذه الاقتباسات من تلك التي سبق لي أن أحببتها.. وفي البال كلام وكلام.. ريست إن بيس.

Maysara Salah El-din
ارتبط بول أوستر بعائلته بشكل كبير... ويمكن هذا من أهم أسباب نجاحه ككاتب ومن أهم أسباب تعاسته كإنسان ... معظم لقاءات بول اوستر الصحافية والتلفزيونية ومعظم أعماله ومذكراته "اختراع العزلة"، يشير فيها لفكرة عذاب الكاتب وغربته وسط عائلة لا تقرأ ولا تحب القراءة ولا تعترف بأهمية الأدب ويشير كمان لغياب الأب اللي رحل عن العالم وترك "بول" في سن مبكرة.
لكن مأساة بول أوستر الكبرى كانت في ابنه الأكبر" دانيال" الذي في ابريل 2022 أعلنت الشرطة العثور علي جثته ملقاة في محطة المترو نتيجة تناول جرعة مفرطة من عقار مخدر.. كانت علاقة بول ودانيال تقريبًا مقطوعة منذ سنوات طويلة وكانت بعيدة عن عيون الناس والصحافة.. لكن كاتباً كبيراً مثل بول أوستر برع في أعماله بخلط الأدب بالجريمة بالفلسفة بالعبث بالسيرة الذاتية، كان على موعد مع مأساة كبيرة.
ما لم يعرفه أحد إن دانيال، قبل وفاته بشهور قليلة، وُجهت إليه تهم خطيرة جداً بقتل ابنه الرضيع - حفيد بول أوستر – من طريق الخطأ باستخدام جرعة مخدرة. كان دانيال مع ابنه في المنزل وحدهما، لكنه لم يستطع أن يكبح نفسه وأخذ جرعته المعتادة من المخدرات. تحقيقات الشرطة لم تستطع أن تحدد بالضبط ما حصل للطفل الرضيع، وكيف وصلت المخدرات إلى جسمه، وكيف أن دانيال، كأب مهمل ومدمن، أعطى رضيعه جرعة من المخدر وما صوّره له عقله ساعتها.
الموقف مرعب، بول أوستر في شهور قليلة خسر حفيده وابنه وجزءاً كبيراً من صورته الناصعة في المجتمع الأدبي وبين القراء. وتغير شيء ما في عقل ونفس وسلوك بول أوستر بعدها. ربما لم يحتمل جسمه، ربما عقله لم يستطع أن يقاوم. وبالفعل أعلنت بعدها بفترة زوجته "سيري هافسيت" اصابته بمرض السرطان كفصل جديد من فصول المأساة الذي قاومه لمدة سنة كاملة ولكن... اليوم العالم يودع بول أوستر.
هل نقول إنه خسر المعركة؟ هل نقول إن حياته وسمعته تضررت بسبب كل اللي حصل؟ كل ما نستطيع قوله أنه ترك بصمه عظمية وأثراً هائلاً، حوالى ثلاثين كتاباً، وترجم لأكثر من أربعين لغة لملايين القراء والمحبين في أنحاء العالم. كل ما نستطيع قوله إن بول أوستر عاش حياته كما أراد ونال كل النجاح والمجد اللذين يستحقهما، وإن الوقت كلما مرّ، لن يبقى إلا ما أراده هو أن يبقى، فقط.