بول أوستر... الكاتب من أجل البقاء

محمد حجيري
الأربعاء   2024/05/01
استيقظُ من النوم على رسالة لصديق في الوتسآب تقول "بول أوستر رائع"، لا أعيرها أهمية. أفتح الفايسبوك تصلني رسالة أخرى تقول "بول أوستر مات". أشعر بإرباك شديد، عدا عن أنّي كنت في لحظة تسيطر عليّ فيها الطلاسم. أفكّرُ كيف سأكتب عن عالم أوستر الواسع، الذي لطالما تسابقت دور النشر في العالم العربي، على ترجمة أعماله الروائية وأشعاره وحواراته (المتوسط، الآداب، وسم، المدى، أثر، شركة المطبوعات، كلمات). للمصادفة، أقرأ في أول مقال عنه، عبارة وردت في روايته "ليفياثان" (1992): "لا أحد قادراً على قول مِن أين يأتي كتاب ما، ناهيك عن كاتبه. تنبثق الكتب من الجهل، وإذ تستمر في الحياة بعد كتابتها، نبقى غير قادرين على فهمها كلياً". وعلى هذا نقول، الكتابة تنبثق من شيء لكثرة ما نعرفه، نجهله.


أوستر الذي كان أصيب بالسرطان قبل أشهر، ولم ينجح في التغلب على المرض، وبحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، فإن أوستر، الروائي، كاتب المذكرات وكاتب السيناريو، صعد إلى الشهرة في الثمانينيات من القرن الماضي، عبر إحياء رواية ما بعد الحداثة. ولد العام 1947 في ولاية نيوجيرسي (شرقي الولايات المتحدة). بدأت حياته الكتابية في سن الثامنة عندما فشل في الحصول على توقيع من بطل البيسبول ويلي مايس. ومنذ ذلك الحين، ظل يحمل قلم رصاص في كل مكان، وكتب في مقال نشره عام 1995: "إذا كان هناك قلم رصاص في جيبك، فهناك احتمال كبير أنك في يوم من الأيام ستشعر بالرغبة بالبدء في استخدامه". بدأ يدرك في سن السادسة عشرة، ميله إلى أن يكون كاتباً وليس العمل في أي مهنة أخرى. بعد تخرجه في جامعة كولومبيا، وحصوله على درجة الماجستير العام 1970، لكسب لقمة العيش، قام أوستر بالتدريس في جامعة كولومبيا ولاحقًا في جامعة برينستون، وعمل في ترجمة ونشر المؤلفين الفرنسيين، بما في ذلك جان بول سارتر. وكسب صداقات يقول "انتقلتُ إلى باريس في فبراير 1971 بعد بضعة أسابيع من عيد ميلادي الرابع والعشرين. حينها كنت أكتب القصائد منذ فترة. بدأت رحلتي إلى مقابلة بيكيت من خلال جاك دوبن، شاعر كنت أترجم أعماله منذ المرحلة الجامعية بنيويورك. أصبحنا صديقين مقربين في باريس".


 عاش بين باريس التي أحبّها، ونيويورك، مكان إلهام رواياته. في كتابه "تباريح العيش" يقول أوستر: "عندما ناهزت سن الـ30، مررت بفترة دامت سنين عديدة، كلما باشرت فيها أمراً كان مآله الفشل. صار زواجي إلى الطلاق، وكانت كتابتي تتعثّر، وكانت الصعوبات المالية تضنيني. فأنا لا أتحدث فقط، عن حاجة ظرفية، ولا عن ضرورة محتملة أتقشف فيها أحياناً، بل عن حاجة إلى المال دائمة، وساحقة، أشبه بخناق، تعكر صفو روحي، وتجعلني أسير حال من الرعب لا ضفاف لها".

أتاح له ميراث والده الذي توفي العام 1979 التفرغ للكتابة. وقد ذاع صيت أوستر العام 1982 بفضل "اختراع العزلة"، وهي رواية مستوحاة من سيرته الذاتية يحاول فيها فهم شخصية والده. وكشف أوستر في تلك المذكرات أن جده لأبيه قُتل بالرصاص على يد جدته، التي تمت تبرئتها على أساس الجنون. وأضاف قائلا "لا يمكن للصبي أن يعيش هذا النوع من الأشياء دون أن يتأثر به كرجل". يقول الكاتب الفرنسي باسكال بروكنر عن أوستر: "وجهة نظر أوستر الروائية تختلف عن غيره من الروائيين في أنه يعترف بانتمائه إلى عائلة، وتقليد، وثقافة، لكنه يدرك أيضاً أن هذه الصلات تنطوي على إشكالية كبيرة. وكما يقول رينيه شار إنه إرث الغموض، في غياب الوصية. وبما أنه ليس من معنى يحتل الصدارة -  فإن الذات، لعنة الحداثة نفسها، شأنها شأن العزلة والتقليد، يجب إعادة اختراعها وإعادة خلقها بالمعنى الحرفي للكلمة".

تؤدي المصادفات/ القدر دوراً محورياً في كتاباته، إذ تُغيّر مصير شخصياته في أحيان كثيرة، كذلك في بعض علاقاته بعالم النشر. شهرة الروائي العالمية، خصوصاً في أوروبا، تعود بشكل رئيسي إلى منتصف الثمانينات، فقد أرسل مخطوطة رواية "مدينة الزجاج" إلى 17 ناشرًا، رفضوها جميعًا. إلى أن صدرت عن طريق ناشر صغير في كاليفورنيا العام 1985 وسرعان ما وصلت إلى لائحة الكتب الأكثر مبيعًا. كانت "مدينة الزجاج" جزءاً من ثلاثية نيويورك، تضاف إليها "أشباح" و"الغرفة الموصدة"، حيث تبحث الشخصيات عن هويتها على طريقة المحققين في متاهة مانهاتن التي تعج بناطحات السحاب، لكن كل شيء فيها يبدو كأنه وهم وسراب. جعل أوستر المنطقة بروكلين ملكًا له من خلال مجموعته "ثلاثية نيويورك"، بل لقب بـ"بشاعر بروكلين"، إذ استقر فيها منذ عام 1980، كانت حاضرة في بعض أعماله الأدبية، وهي المكان الذي يشكل إطاراً عاماً، يتحرك فيه أبطاله.


أطلق "في بلد الأشياء الأخيرة" العام 1987، وهي رواية رسائلية تصف العالم من وجهة نظر امرأة بلا مأوى وتحظى باهتمام كبير. ثمّ رواية "قصر القمر" صدرت العام 1989 بطلها شاب في ستينيات القرن العشرين، يسعى بدأب للبحث عن مفاتيح ماضيه، عن إجابات للغز مصيره. ولا ننسى "4 3 2 1" العام 2017، وقد وصلت إلى لائحة البوكر القصيرة، وتتألف من 1000 صفحة تقريباً من الخيال التأملي الباحث في الدروب المختلفة التي قد تسلكها الحياة. تصنيف رواياته على أنها "روايات بوليسية". لكن أوستر ليس معنياً بذلك، بل على العكس يتحدث عن تأثير بورخيس وديكنز وأميلي برونتي وتولستوي عليه، إضافة إلى الحكايات الأميركية الشعبية. يقول "أشعر بارتباط حقيقي مع الأشكال القديمة للأدب. أكثر ما يلهمني وما أفكر فيه أغلب الوقت هو الحكايات الخرافية "Fairy Tales". حقيقة، قلما أفكر في نفسي كروائي، بل كحكّاء/ كحواتيّ، وأكثر الكتّاب الذين اهتم لما يكتبون هم كتاب القرن التاسع عشر الأمريكان. صحيح إني أقدِّر بعض كتابات القرن العشرين، ولكن ليس مثل تقديري لهيرمان ميلفل وناثانيال هاوثورن وهنري ثورو".
أوستر الذي وصفته وكالة "فرانس برس" بصاحب العيون الغارقة المفعمة بالحيوية، كاتب سيناريو، وعرف خصوصاً في هذا المجال بفيلم "سموك" (Smoke)، الذي تتمحور قصته حول شخصيات تعيش في الضياع حول متجر للتبغ في بروكلين، إضافة إلى تكملة العمل بعنوان "بروكلين بوغي"، وهما فيلمان أنجزهما مع واين وانغ. ومن أعماله الناجحة الأخرى، "مون بالاس" (1989) و"ّذي بوك أوف إيلوغنز" (2002) و"ذي بروكلين فوليز" (2005).


حظي بول أستر بتقدير خاص في فرنسا التي كان يعتبرها "بلده الثاني"، وحصل فيها على جائزة ميديسيس للرواية الأجنبية عن كتابه عن "ليفياثان" العام 1993. كان بعض النقاد يعتبره "الأميركي الأكثر أوروبية"، لكنه يرفض هذا التصنيف أو التوصيف. وتكتب بعض الأقلام عن أثر جاك دريدا علية فكرياً بعدما عاش أوستر بعض السنوات في فرنسا واطلع من كثب على كتابات دريدا.


وكان أوستر يجاهر بتأييده للحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة، وقد انتقد في أحد كتبه سياسات الرئيس السابق جورج بوش. واعتبر أن ترامب يسمم الأجواء. أما بالنسبة إلى هويته فكانت موضع غموض، لا تأخذه مسألة أصوله ولا تعذبه مسألة "الهوية" (يهودي من نيويورك).


وفي نيسان 2022، فقد ابنه دانيال أوستر (44 عاماً) الذي رُزق به من الكاتبة ليديا ديفيس، زوجته الأولى. وقد توفي أوستر الابن بسبب "جرعة زائدة عرضية" في نيويورك بعد اتهامه بالقتل غير العمد إثر وفاة ابنته روبي، البالغة 10 أشهر فقط، نهاية العام 2021، بجرعة زائدة أيضاً.

على الرغم من تشخيص إصابته بالسرطان في العام نفسه، أكمل بول أوستر كتابه الأخير المفعم بالحنين، بعنوان "بومغارتنر"، وهو عمل "لطيف وعجائبي" وفق توصيف زوجته هوستفيت.

كان تدوين القصص على الورق هوسه، وقال ذات مرة لصحيفة "دي تسايت" الألمانية الأسبوعية: "الكتابة ليست عملاً من أعمال الإرادة الحرة بالنسبة إلي، إنها مسألة بقاء". وكان يقول "يولد الفن من المحنة"، وهو كذلك.