"طعم الأسمنت": بُناة العالم تحت الأنقاض

راشد عيسى
الإثنين   2019/01/07
طعم الاسمنت
منذ أن استخدم مارسيل بروست في روايته "البحث عن الزمن الضائع"، طعم حلوى المادلين المبللة بالشاي، ذريعةً لتذكّر الماضي واستعادة أحداثه، شاع في الثقافة الشعبية الفرنسية تعبير "مادلين دو بروست" رمزاً لأي ذكرى تنبثق من الماضي إثر طعم آسر، نافذةً لاستعادة حقبة.

لكن العامل السوري، بطل فيلم "طعم الأسمنت"، ليس لديه ترف المادلين ولا الكرز. إنه أسير طعم الأسمنت ورائحته التي تأخذه إلى ذكرى تعود إلى 15 عاماً مضت، يروي عبرها حكاية جيلين من العمال السوريين في لبنان، الأب عامل البناء في لبنان بعد انتهاء الحرب الأهلية، ثم الابن الذي تهدم الحرب الراهنة بيته، فيهرب من تحت أنقاضه، ليجد نفسه تحت أنقاض بيروت.

يعاد الاحتفاء بالفيلم في فرنسا راهناً (انتاج 2017 - سيناريو وحوار: زياد كلثوم وأنسجار فريرش)، إذ تنظم له عروض خاصة خلال الشهر الجاري في عدد من المدن الفرنسية، إضافة إلى أنه برز أخيراً في لائحة مجلة "بروميير" المتخصصة في السينما كواحد من أفضل 10 أفلام عرضت فرنسياً خلال العام 2018. وفيه، تُروى الحكاية على لسان عامل سوري. تبدأ من كاميرا تصور عيناً بين هجعة ويقظة في قبو المبنى المعتم، وتنتهي إلى العين ذاتها في ختام الفيلم، كما لو أن مجريات الفيلم (85 د) حدثت كلها بين تفتّح تلك العين وإغماضتها. حكاية يرويها صوت مخرج الفيلم، زياد كلثوم، متقمصاً شخصية ذلك العامل الهارب من الحرب.

ترتكز حكاية الراوي على ذِكْرَيَيْن: رائحة الأسمنت العالقة في ثياب الأب، وجسده العائد من بيروت في بداية مرحلة الإعمار مع بداية تسعينيات القرن الماضي، ومعه صورة لبحرها يعلقها في مطبخ البيت. فكانت بداية تعلّق عيني الصبي بالبحر، يمدّ يده ليلمس البحر، فيهيج الموج، يسحبه، يغوص فيه. ذكرى، كما لو أنها نبوءة. والثانية صورة الشاب نفسه عالقاً تحت الأنقاض بعد القصف أثناء الحرب الراهنة: "كان بيتنا طامرني، بتمّي، بأنفي، بعيوني. ظلوا يحفروا يوم كامل ليوصلوا لي. ريحة الشمينتو (الأسمنت) لسّاتها براسي، مع ريحة الموت".


وما أن يمسح العامل السوري غبار أنقاض الحرب عن عينيه، حتى يجد نفسه تحت أنقاض مماثلة: "فجأة لقيت حالي هون، بحفرة تانية تحت الأرض". وهذا بالضبط ما تروح كاميرا "طعم الأسمنت" تصوّره (مدير التصوير البارع طلال خوري). تنشغل الكاميرا بتصوير حياة العمال الذين يعيشون بين ثنائيات عديدة حادة، هم فيها دائماً على الحافة. إنهم يعملون في أعالي البرج، حيث السماء الزرقاء ومشهد البحر الجميل والمدينة، زحمة الناس والسيارات. فيما يقضون ليلتهم في حفرة القبو المعتمة، يمشون وحيدين في سراديبها، يأخذون من الحياة أقل القليل، من البحر الواسع الهائل علبة سردين فوق رغيف عار، ومن المدينة شاشات موبايل يتابعون عبرها صور وأخبار القصف والموت تحت الأنقاض في بلدهم. حياة تشبه تلك التي صوّرها الكاتب البولوني سلافومير مروجيك في مسرحية "المهاجران"، والتي تمثّل حياة مهاجرَيْن يعيشان في قبو بناية معتم، بين أنابيب الصرف الصحي، لا يعرفان من الحياة إلا ضجيج الناس الذين في الأعالي. لكن سكان حفرة "طعم الأسمنت" ظلوا صامتين على الدوام، بعكس مهاجريْ مروجيك الثرثاريْن. يتحركون فرادى، من دون أي تواصل إنساني، حتى في ساعات راحتهم. كان ذلك أقسى وأوجع ما قدّمه الفيلم. كان بإمكان هذا الوثائقي أن يعرض شهاداتهم وهمومهم، لكنه اكتفى بالصمت راوياً بارعاً.   
إنهم على هامش المدينة، وما بيروت والبحر والزرقة سوى مشهد أصم من حولهم، كما ورق الجدران، على ما يقول الراوي. كان يمكن للمدينة هنا أن تكون أي مدينة يتعرض فيها العمال للظلم، دبي، القاهرة، وحتى نيويورك، لكنها في "طعم الأسمنت" بيروت، التي ترفع لافتة بوجه العمال السوريين تحذّرهم من التجول بعد السابعة مساءً. هنا واحدة من المرات التي يصبح الفيلم معها لبنانياً إلى حد، فعبر تلك اللافتة يحضر التشابك اللبناني السوري، وهذا ما يفسر أن الفيلم السوري أثار نقاشاً وكتابة رائعين في الجانب اللبناني، كما لو أنه شأن داخلي، أكثر مما أثار في المشهد الثقافي السوري (وهي ملاحظة تستحق بحثاً آخر).

تتناوب كاميرا الفيلم على الدوام بين مشهدي الحرب والإعمار بين سوريا ولبنان، الدبابة والجرافة، تهوّر المعدن وبطشه هناك، و"حكمته" هنا. تختلط الأدوات أحياناً بإيقاع سريع ومتداخل، ولن تميل الكفّة، بخلاف ما يتوقع المشاهد العابر، لصالح مشهد البناء، لأن البناة، الناجين من الأنقاض، وجدوا أنفسهم تحت الأنقاض مرة أخرى. ولأن الإعمار هنا، كما قيل في أكثر من مكان، لم يكن ممكناً لولا التدمير المتوحش هناك. وسواء أكانت العلاقة سببية أم لا بين التدمير والإعمار، فإن الفيلم أراد أن يساوي بين فعل التدمير والإعمار، ولذلك سيجهّز نبوءة في نهاية الفيلم.

الكاميرا تدور ببطء، تصمم المشهد بعناية، ودائماً سيكون المعدن هو السيد، الرافعة ستخرق مشهد الغروب الجميل، والحديد سيبدو كقضبان السجن للعمال. المصعد مثل شاحنة تسوق العبيد أو محكومي الأشغال الشاقة إلى أعمال السخرة، وستلتقط الكاميرا لحظات الإغلاق العديدة للأبواب والآلات. أحياناً سيصبح مشهد إغلاق أو انتزاع قطعة معدنية هو الحدث. إننا نتابع بصبر وترقب إغلاق قطعة لأخرى، ركوب قطعة فوق أخرى، كما لو أن الأمر ختام لحدث مسرحي، إلى أن نسمع صوت الإغلاق. لقد كُتب للشريط البصري شريطٌ صوتي مذهل (صمّمه سباستيان تيش)، فمنذ اللحظات الأولى ستطغى أصوات الأدوات والعدد، ولن يكون نافراً أن تسمع بينها صوت عواء.

كوابيس 
لمرتين سيخرج الفيلم عن مشهدي التدمير والإعمار، بما يوحي أننا بتنا أمام مَشاهد فانتازية. وربما هي كذلك بالفعل لأن تلك المشاهد ما هي إلا كابوس العامل السوري، بطل "طعم الأسمنت". في المرة الأولى، نراه يرسم صورة امرأة، حبات العرق تغطي وجهه، تمرّ أمام عينيه صور جموع اللاجئين، ثم صوت مروحية، وصور قذائف تلقى (يبدو أن الفيديو يخص مدينة داريا كما ثبت في زاويته)، هنا يتحدث صوت الراوي، كيف وجد نفسه تحت الأنقاض، إلى أن يقول، مستعيداً صورة أمه: "بقيان بذاكرتي اللحظة الأخيرة، راسك عالطاولة، نايمة. ميتة. وينك هلق؟". من هنا ستذهب الكاميرا إلى قاع البحر، ليس ذلك المشهد المرجاني الجميل، بل هو مشهد لقاع ملوث، تحوم فيه الأسماك حول المعدن الصدئ. كأن قاع البحر امتداد للحفرة التي يسكنها العمال، أو كأن المشهد هو قاع صورة البحر المعلقة في المطبخ، أو في أعالي البرج. قاع البحر هو معادل لعالم الموت، الذي يشتهي العامل/الراوي الغوص فيه كما يقول في عبارة الفيلم الأخيرة: "تذكرت أول مرة شفت البحر (صورة البحر) بالمطبخ. كان عندي رغبة قوية فوت جوات الصورة وما عاد إطلع. أهرب من الحرب، من الدمار، من كل شي. مدّيت إيدي لألمس البحر، هاج الموج، النخلتين انهزوا، دفشني الموج..".

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الفيلم، مع التعليق الصوتي للراوي، يقترب إلى حدّ كبير من السينما الروائية. هذه المأساة المكتوبة على نحو أدبي، لها بداية ونهاية وشخصيات، أعطت الفيلم بعداً إنسانياً عاطفياً.     

في المرة الثانية سنمرّ من جديد، عبر عين العامل، إلى سرداب، سيأخذنا بدوره إلى فيديو يصور عمليات بحث عن ناجين تحت الأنقاض في سوريا، في مشهد طويل واقعي وصادم. ستعود الكاميرا منه لتأخذنا إلى قاع البحر ثانية. في نهاية المشهد ستصعد الكاميرا من الحفرة إلى سطح المبنى. سنشهد مطراً غزيراً. الكاميرا تقفز من بقعة ماء إلى أخرى. نسمع قطرات ماء ثقيلة، كما لو أنها نازلة من سقف بيت فقير. نسمع ضجيجها بوضوح. هل هو تلميح، نبوءة، وعد، أو تمنٍّ بغرق العالم؟

لم لا، ما دام المشهد التالي يُؤخذ من كاميرا مثبتة في فتحة الجبّالة في سيارة الأسمنت. تدور، فنرى المدينة (ابنة الأسمنت) والأضواء والشجر والمباني والأنفاق، تدور وتنقلب كأنما يعيد البناؤون عجنها من جديد.