طوني جعيتاني: أَسمع، أَنظر، أؤمن.. فيقدم الواقع هداياه الثمينة
أجرت "المدن" حواراً مع جعيتاني، هنا مقاطع منه أعيد ترتيبها لتشكل سرداً متسقاً، مع إضافات قليلة لكاتب السطور:
كان مضحكاً كيف هبط عليّ الإلهام بعد مشاهدتي جلسة إرتجال في "دواوين" العام 2016، وكانت مع رامي الصباغ، كريم شمس الدين، وجاد عطوة. تملكتني في تلك الليلة إرادة غريبة لأركّب شيئاً و"أحرتق" بالضجيج مستخدماً ما أتيح من آلات عندي. ثم أضيف تسجيلاً صوتياً كنت قد أخذته بشكل عرضي قبل أسابيع على البلكون، غيرت فيه رقمياً، في تردداته (automation) وضخامته، ليتلاءم مع ما أنجزت.
أدت شحنة النشاط هذه إلى إنهائي التراك الأول الذي سيصبح نموذجاً أطبقه على عدد من تراكات الألبوم، حيث تأخذ البداية طابع الإرتجال الموسيقى واللغوي، الذي يُعدّل لاحقاً ويغربل، لكن مبقياً على الإحساس والروحية الأولى كما هي. وبتجلٍّ بأوضح أشكاله في أحد أغاني الألبوم التي عملت عليها مع سارة مشموشي، حيث خرج الكلام والموسيقى في جسلة واحدة، وقد اكتفينا بالميكساج من دون تعديل شيء. من المهم أن تجري العملية بشكل موازٍ لجميع العناصر - حتى ولو كانت بصرية أيضاً – وألا تسبق الموسيقى الكلام، أو بالعكس، لتبقى التجربة أصدق وأقرب إلى الحدس.
في ما يخص الشِّعر، تهمني الطريقة التي يقال فيها، كما أؤمن بجمالية العلاقة بين الأدب والموسيقى، التي تظهر مثلا مع توم وايتس أو دايفد بوي، لكن للشعر العربي خصوصية إذ يمزج الحميمية بالمواضيع الثورية، ببلاغة آسرة، كما الحال مع أمل دنقل ومحمود درويش. فهناك وضوح في الأداء والأفكار، أقله في القصائد ذات البعد الثوري، التي تأخذ طابعاً شخصياً ووطنياً في آن.
السينما، كما الأدب، تضيف شيئاً مهماً إلى الموسيقى. فهي مثلها تعتمد، بالنسبة الّي، على الحدس وقدرة المكان على توليد أشياء جديدة. عند التصوير أكتب نقاطاً معدودة فقط، وأترك الباقي ليتطور في السياق الذي وضعته في البداية، طبعاً بشرط أن أكون مؤمناً بمحيطي والأشخاص الموجودين معي وأن أسمع وأنظر بشكل أفضل لكي أفسح للواقع أن يقدم هداياه الثمينة.
دخلت كورال الكنيسة وأنا في السابعة من عمري، حيث تعلمت أيضاً البيانو بمساعدة الأستاذ المشرف على الكورال. أعطاني أبي، بعد سنوات، كاميرا vhs صارت ترافقني أينما أذهب وأصور فيها نفسي وأنا أعزف. ثم بفضل عمي، وهو فنان تشكيلي، عرفني باكراً على أفلام ألمودوفار وكيروساوا وغيرهما، مطوراً ذوقي السينمائي ومشكلاً نماذج مستقبلية لي. لاحقاً عند دخولي الجامعة، تكفل الإحتكاك مع الآخرين وتبادل المعلومات الدائم، في تكوين ذوق أكثر تنوعاً يعتمد بجزء منه على عشوائية الإنترنت، وهو ذوق متغير ومتقلب على الدوام.
عندما بدأت استعمل صوتي مع الموسيقى، كنت خائفاً من أن يقال لي إنه جميل، كما حصل لي في طفولتي عندما أدخلني أهلي إلى كورال الكنيسة. لم أعد أريد أن أغني بشكل صحيح أو جميل فهناك ما يكفي من الأصوات الجميلة، وبرامج المواهب تخلق نسخ ونماذج متطابقةً سنوياً. ما صار يهمني أكثر هو كيفية استخدام الصوت وخروجه، وأن أفهم الأداء وعلاقته بالجسد، طبعاً بعد تأثري بنماذج عديدة، أولها كما ذكرت سابقاً توم وايتس، وجون ماوس وSleep Party People وغيرهم. فهناك خياران للتحكم بالأداء، أحدهما عضوي يرتكز على الإحتمالات الجسدية للصوت، وآخر ديجيتالي يعطي هامشاً واسعاً من الإحتمالات التي تزيد تآلف الصوت مع الطبقات الإلكترونية الأخرى.
طبعاً كان هناك تأثير للسينما التي أحب أن أدير ممثليها جسدياً ومن الخارج، وليس من الداخل النفسي. فليس ضرورياً أن يدخل الممثل في الحالة النفسية للدور ويُستهلك عاطفياً وشعورياً، بل يكفي أن يظهر لي بطريقة تعطي انطباعاً بذلك، وبمساعدة التقنيات السينمائية التي تعطي الجو الملائم لإيصال الشعور الذي أريده إلى المشاهد.