"نهر على صليب" لنوري الجرّاح: تحت ‬سماء ‬مائلة ‬ومكسورة

عماد الدين موسى
الثلاثاء   2018/03/20
تبدو الثيمة الأبرز في قصيدة الشاعر السوري نوري الجرّاح، هي تلك اللغة الدراميّة العذبة والتي تتصف بمزيدٍ من المرونة والسلاسة، وتشبه إلى حدّ ما هدير الماء. وهو ما يجعل من قصيدته صيغة سيمفونيّة محكمة البناء، سواء من جهة العبارات المنتقاة بعنايةٍ ورويّة أو من حيثُ إيقاعاتِها الموسيقيّة الخافتة والمتداخلةِ في الآنِ معاً.

يتضمن ديوان "نهرٌ على صليب"(*) للشاعر نوري الجرّاح؛ أربع قصائد متفاوتة الطول، هي على التوالي: "الخُرُوجُ مِنْ شَرْقِ المُتَوَسِّطِ"، "مَرْثِيَّةُ الْبَنَفْسَجِ"، "نَهْرٌ عَلَى صَلِيبْ"، و"أُنْشُودَةُ يُوسُفْ- نهاية قصة لا تنتهي"؛ ولعلّ الخيط الوحيد، الذي يجمع ما بين هذه القصائد هي تلك النبرة المؤلمة في تناولها للحدث السوري الراهن، كتابةٌ مُشرّعةٌ على "الوجع" باعتباره العنوان الرئيس لهذه المرحلةِ؛ يقول: "كَيفَ‬ أَهْرُبُ ‬فِي‬ مَوكبٍ،/ وَأَنَا ‬بِلَا ‬جَنَاحَينْ../ الصَّبيُّ،‬ تَحْتَ ‬سَمَاءٍ‬ مَائِلَةٍ ‬ومَكْسُورةٍ،/ صَرْخَةً/ وَحُطَامَاً/ وَجَنَاحَينِ ‬مُهَشَّمَينِ ‬فِي‬ صُنْدُوقٍ ‬زُجَاجِيٍّ".

ثمّة حِدسٌ وشفافيّةُ ونسقيّة نجدها بين جنبات هذا المقطع، وهو ما ينسحب على أجواء معظم قصائد الكتاب. حيثُ نلاحظ أنّ الشاعر يُولي التفاصيل، بحميميّتها ونزقها، عنايةً تامّة ويحتفي بها أيما احتفاء، وتحديداً في ما يخصّ الماضي/الذكرى أو التذكّر، فيكتب عن بلاده بمحبةٍ وفرح غامرين، وهو الغائب/الحاضر عنها وفيها، حيثُ يكتب بإسهابٍ عن مدينة "دمشق" وكأنه لم يغادرها أبداً. هنا تلعب "المرآة" دور الانعكاس، من خلال اعتماده  لعبة التقابل، حيث التداخل ما بين ثنائيّة الآن والأمس، وكذلك المقارنةُ ما بين هنا وهناك، أو المزج ما بين الواقع والمجاز. فيقول: "لا نَهْرَ فِي دِمَشْقَ/ فَيَا نَخْلَتِي، لاَ تَحْزَنِي أَكْثَرَ مِمَّا يَحْزَنُ طَائِرٌ عَلَى غَابَتِهِ المُحْتَرِقَةِ/ غَرِيبَانِ ظِلِّي وَظِلُّكِ فِي هَذِهِ الأَرْضِ،/ فَهْل نُحْنُ مُنْكَسِرَانِ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ؟". نفحةُ الحزنِ الشجيّة، في هذا المقطع، جعلتهُ أكثر شاعريّة وتكثيفاً للوجعِ الذي يعتور كلّ من القارئ/ المُتلقي وكذلك المبدع، ولعلّ ما ميّزه هو تلك النبرة التصاعديّة التي اعتمدها الشاعر، ما مهّد للانتقال من وصفه للألم الدمشقيّ بأنه ليس "هناك" فحسب بل في كلّ مكانٍ وفي أيّ زمان.

جماليّات التشكيل وتوظيفها
يوظّف نوري الجرّاح تقنياتٍ عديدةٍ في بنية قصيدته، بدءاً من تقنية المقطع عبر تقطيعه القصيدة إلى مقاطع أو اسكيتشات متتاليّة مع وضعه لفواصل جليّة (ثلاث نجماتٍ) أثناء الانتقال من مقطع لآخر، مروراً بتقنية التكرار سواء بتكراره لجملةٍ ما في بداية كل مقطع أو كلازمة في النهايات، عدا عن توظيفه للجماليّات التشكيلية، حيثُ يبدو الجانب الوصفيّ/ التصويريّ/ البصريّ جليّاً لديه. ليس فقط، لأنّ "الشِعر رسمٌ ناطق والرسم شِعر صامت" بحسب سيمونيدس (468 قبل الميلاد)، وإنما لينتقل بقصيدته من كونها "مُدوّنة" إلى حالةٍ من المشهديّة/ التجريديّة المُذهلة. هنا ثمّة لوحة تشكيليّة، دوّنها الشاعر بإتقان، نتأمّلها أكثر ممّا نقرأها؛ كما في هذا المقطع/ المشهد، حيثُ يقول: "خُذِ المِفَتَاحَ وَافْتَحْ بَابَ هَذَا البَيْتِ/ رَتِّبْ سَرِيرَيْنِ لِطِفْلَيْنِ/ تَرَكْتُهُمَا/ يَسْتَلْقِيَانِ/ فِي/ زُرْقَةٍ/ وَيُنَزّهَانِ حَشَائِشَ الأَعْمَاقِ،/ وَامْرَأَةٍ هَرَبَتْ بِهَا مَوْجَةٌ/ يَدَاهَا غُصْنَانِ مَكْسُورَانِ/ عَلَى/ دَالِيَةٍ/ وَيَاسَمِينُ شَعْرِهَا أُرْجُوحَةٌ لِلزَّبَدْ". فعل الأمر "خُذْ" بدا سلساً ومُفتتحاً المشهد بأريحيّة تامّة فيما يخصّ عمليّة التلقّي بالنسبة للقارئ/ الناظر، لتأتي بعدها "المفتاح" و"افتح" ليكتمل المشهد الجماليّ الآسر، حيثُ نجد هنا أنّ ثمّة تناغم شديد الخصوصيّة من جهة اختيار الشاعر للمفردة أو من حيثُ توظيفها في سياقها المرجوّ، وما "أرجوحة الزبد" سوى ضربة فرشاة أخيرة على جسد الصفحة/ البيضاء، لإنجاز اللوحة/ القصيدة.

قصيدة في أربعة مشاهد
كتاب "نهرٌ على صليب"، يمكننا اعتباره قصيدة واحدة في أربعة مشاهد، نظراً لتداخل الأجواء والتعابير في ما بينها تداخلاً حميماًوخلاقاً، حيثُ نجد الغنى المفرادتي لدى الشاعر جنباً إلى جنب مع خصوصيّة التقاط "الحدث"وإضفاء لمسة جماليّة عليه، بالإضافة لتلك الحنيّة في تناوله الوجداني لكل ما جرى ويجري وبمنتهى البساطة والإدهاش؛ يقول:"لَمْ يَعُدْ وَجْهِي غَرِيباً/ فِي المَوَانِئِ/ وَالمَطَارَاتِ/ وَأَبْوَابِ العُبُورِ/ فَأَنَا حِكَايَةُ كُلِّ يَوْمٍ./ وَأَنَا نِدَاءُ الزَّوْرَقِ المَكْسُورِ/ لِلْمَوْجَةِ العَمْيَاءْ".


(*) صدر حديثاً عن منشورات المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر (بيروت- 2018).
(**) جديرٌ بالذكر أنّ نوري الجرّاح من مواليد دمشق 1956، يقيم في لندن منذ 1986. يصدر مجموعاته الشعرية منذ العام 1982، وهي: (الصبي، مجاراة الصوت، كأس سوداء، القصيدة والقصيدة في المرآة، طفولة موت، صعود إبريل، حدائق هاملت، طريق دمشق، الحديقة الفارسية، يوم قابيل، يأس نوح، مرثيات أربع، وقارب إلى لِسبوس). عدا عن أعماله الشعريّة الصادرة في مجلدين في بيروت 2008، بالإضافة إلى مختارات من شِعره صدرت في كل من بيروت والقاهرة والجزائر.