مغامرات شاعرة في سوق سبايا "داعش"

شريف الشافعي
الإثنين   2017/09/04
حتى الأطفال دون الخامسة، لم يسلموا من إجرام داعش،
الناجيات من قبضة داعش وجحيم الموت، بإمكانهن أن يروين مآسيهن الدامية، بحكم أنهن عدن إلى الحياة مرة أخرى، فما بال غير الناجيات؟ ماذا حل بهن، ولمن يحكين تفاصيل انتهاكهن أو ذبحهن؟

كلمات ممزوجة بالأسى والمرارة تقولها لـ"المدن" الشاعرة والكاتبة العراقية دنيا ميخائيل (*)، وهي تسترجع الغائب والمسكوت عنه وغير المرويّ في كتابها التوثيقي المهم "في سوق السبايا" (**)، الذي تتقصى فيه فظائع داعش في العراق وسوريا، خصوصاً إزاء النساء، عبر رحلة سرية قامت بها إلى العراق، التقت خلالها عدداً من "السبايا" اللاتي استطعن الهرب والنجاة من قبضة داعش، بعد معاناة بالغة وأهوال قاسية في الأسر.

ثمة ما لم يستوعبه الكتاب، تقول دنيا، لأن هناك نساء لم يتمكن من الفكاك بعد، وهناك حشرجات أخرى لم يتسع لها الكتاب في صدوره الأول، ستتضمنها طبعته الثانية عما قريب: "حكايات الضحايا مهولة، والدموع أنجم مشتعلة، وتفاصيل الآلام والعذابات تحتاج إلى مزيد من الصفحات، وتبقى الذكريات المتشظية بحجم فضاء".

حكت دنيا في كتابها الموجع قصص هؤلاء الناجيات، معتمدة على روايتهن المباشرة لما حدث لهن، وعلى روايات وسيط التقته في رحلتها، هو "عبد الله"، الذي كان بالأصل مربياً للنحل، واستطاع إنقاذ عشرات "السبايا" بطريقه لإنقاذ أخته، وعن ذلك يقول: "كل يوم أنقذها وأنا أنقذ ملكة من الملكات اللواتي يسموهن سبايا".

الذي ظل يشغل دنيا ميخائيل بعد صدور الكتاب، إلى يومنا هذا، هو ما حلَّ بغير الناجيات: "بعد صدور الكتاب، وإذ بقيتُ على اتصال مع الشخصية الرئيسية فيه، عبد الله المنقذ للسبايا، سمعتُ منه بأن هناك سبية اتصلت به وانقطع الخط ولم تعاود الاتصال أبداً".

ما زالت كلمات عبد الله تطنّ في أذن دنيا ميخائيل، إذ قال لها عن تلك المرأة: "كانت مختنقة بالبكاء، لم أفهم ما حاولتْ قولَه لي. لم أعرف مَن هي ولا أين كانت. فقط قولي لي أين أنتِ؟ طلبتُ منها. قالت وهي مختنقة بالبكاء: لا أدري. هنا نهر، ماء كثير. ربما كانت تحاول أن تهرب لكن انقطع الخط. انتظرتُ أن أسمع منها مرة أخرى. مرّت الأيام والشهور وليس لي منها سوى ذكرى حشرجة الصوت تلك".

الطبعة الثانية للكتاب، تقول دنيا ميخائيل لـ"المدن"، ستتضمن روايات أخرى لفجائع موصولة، لم تنقطع بعد: "أريد أن أضيف ذكرى حشرجة الصوت تلك، لأنها تؤرقني فعلاً، فوق ما أتحمل".

هناك أشياء أخرى، مؤثرة جدّاً، سمعتها دنيا ميخائيل في مغامرتها من بعض النساء اللواتي بقين على اتصال معها، عنها تقول: "لا أنسى، مثلاً، كومة الشَّعر التي وصفتها لي إحداهن. كيف كانوا يجرّونها من شعرها. كل واحد منهم أخذ نصيبه من شعرها".

مسألة أخرى بها مفارقة، تحكي دنيا: "الدورة الشهرية، هي ليست شيئاً محبباً أبداً، ولا نفرح بقدومها نحن النساء، إنما في ذلك المكان المرعب من الضرب والاغتصاب، كانت الأسيرة تفرح بقدوم الدورة الشهرية، لأنها تحميها ولو مؤقتاً من الاغتصاب".

كلّ يوم من أيام العام، كان عبد الله يحكي لدنيا ميخائيل حكاية "حقيقية" عن "سبيّة" أنقذها، أو أخفق، وهي بدورها تدوّن، ثم جاءتها فكرة المغامرة لإنجاز الكتاب: "بعد سنة من الاستماع لقصص لم تقتلني، وبعد عشرين عاماً من الغياب عن بلدي، قررت العودة لألتقي بأولئك الناس الواقفين على حواف مقابر جماعية، تحوي عظام جدّات لم يصلحن كسبايا، وأحفادهن الملتصقين بهن، ورجال فُصلوا عن عائلاتهم. سنجار أو شنكال التي معناها (الجهة الجميلة) باللغة الكردية صارت تُعرَف بأرض المقابر الجماعية".

عبد الله منقذ السبايا نفسه، كما تحكي دنيا، كان قد خرج وعائلته في القافلة مع آلاف الخارجين من "سنجار"، عندما اقتحمها تنظيم داعش: "هناك، بالقرب من الموت المجاني الدائر على الجميع، العنف متوفر ورخيص كالهواء في كل مكان، والألم موجود كذلك في كل مكان، إنما ألمنا نحن يوجعُ أكثر".

عن عبد الله، ومقتل عدد من أفراد عائلته على يد داعش، تحكي دنيا التي لا تنسى في خضم الأحداث الدامية أنها شاعرة بالأساس، قبل أن تكون كاتبة أو مؤرخة: "عند حافة مقبرة جماعية، وقف عبد الله يبكي، فقد عثر أخيراً على أخيه: كان نائماً أخوه، على جنبه، هكذا كما اتفق، مثلما يفعل دائماً، سوى أن عظامه بارزة يمكن حسابها، محاطاً بالأصدقاء كالعادة، سوى أنهم موتى".

هو "الوجع" المتناثر من شظايا الحكايات المؤلمة، اصطادته الشاعرة المغامرة بشبكتها المقاوِمة للتمزق، كي تصنع كتابًا قادرًا على فضح ممارسات داعش الإجرامية، بنصوص لا تخلو من جمال وشاعرية: "فوق المقبرة الجماعية، تتسلل الشمس بين الغيوم، مثل كل مرة، سوى أنها اليوم تضيء الموت أكثر".

إنه الموت حين يصير شعراً، والشعر حين يغدو موتًا: "حاصر الدواعش سهل نينوي وسنجار، أخذوا النساء سبايا بعدما قتلوا رجالهم. خرج أهل المنطقة، خصوصًا الإيزيديين، في قافلة كأنها يوم القيامة. رأيتُ أناسًا مذهولين، يسيرون حفاة، يحملون على ظهورهم الأطفال والمسنين والمعوقين، وخلفهم غبار الطريق".

هذا التناول الشعري، وهذه اللغة المستخدمة، هما أبرز ملامح تفرد دنيا ميخائيل في "سوق السبايا"، فهو ليس مجرد كتاب توثيقي، إنما تشكل نصوصه قيمة جمالية وإبداعية بحد ذاتها، الأمر الذي دفع "رون غارلس" إلى وصف الكتاب في واشنطن بوست بأنه "شغل رائع بصوت شعري استثنائي خلف مفارقات من الدمار والجمال الباهر"، فيما أشار "روبرت ستيوارت" في مجلة نيولترز الأدبية إلى أن صاحبة هذه التجربة "استطاعت أن تنقل الأحداث العالمية بأصالة وذكاء يجعلانها صوتًا شعريًّا جوهريًّا ونادرًا بحق".

مغامرات الشاعرة في سوق سبايا "داعش"، أسفرت عن حكايا عديدة، تدين الإنسانية جمعاء، وليس التنظيم الإرهابي وحده: "فتيات في المستودع، يجري تقليبهن كالبطيخ، يختارون ما يشاؤون بعد أن يشمّوهن، الأكثر جمالًا في ذلك المكان هي الأقل حظًّا، لأنها تباع وتُشترى بسرعة. نادية، سعرها 85 دولارًا، ويمكن أن تُهدى بالمجان إلى أمير داعشي تقديرًا لجهاده. شكرية، عمرها أربعة عشر عامًا فقط، لكن ذلك لم يمنع بيعها سبع مرات متتالية، واغتصابها مرات لا حصر لها".

إن ما هدفت إليه دنيا ميخائيل في كتابها "سوق السبايا"، كما تحكي لـ"المدن"، هو تحقيق رغبة عبد الله، منقذ السبايا، بأن يصل صوت ضحايا داعش إلى العالم، خصوصًا النساء اللاتي جرى التعامل معهن بوحشية: "من هؤلاء الضحايا نادية، التي استطاعت الهرب بمساعدة عبد الله، بعدما لقيت أهوالًا في جحيم داعش. بيعت نادية بمائتي دولار لرجل من الشيشان كان يغتصبها أمام أطفالها، ويضربهم بقسوة، كما كان يهديها لأصدقائه لعدة أيام وفق اتفاق مؤقت يسمّيه الدواعش إيجارًا".

تنظيم داعش ضد كل عناصر الحياة، تقول دنيا، بل وتمتد انتهاكاته إلى الموت، إذ راح جنوده وأتباعه يهدمون القبور التي عليها صلبان أو نقوش وكتابات آرامية وعبرية: "عندما مررت بتلك الأمكنة، تذكرتُ قبر جدتي، التي كانت في قرية تلكيف، تلك القرية التي سقطت في يد داعش. أي عذاب يمكنني وصفه؟".

حتى الأطفال دون الخامسة، كما تحكي دنيا، لم يسلموا من إجرام داعش، فقد أجبروا على أداء مهمات خطرة، تعرضهم للموت في أية لحظة، منها ربط الأسلاك في عمليات تصنيع الصواريخ، وعند حدوث خطأ ما، يأتي الموت ليصحح الأوضاع بالهلاك.

ثمة بعض الحيل النسوية للنجاة من داعش، كما تروي دنيا ميخائيل نقلًا عن "بديعة"، إحدى ضحايا التنظيم الإرهابي، منها أنها لم تستحم لمدة شهر حتى صارت تفوح منها رائحة غير طيبة مما جعل المقاتلين ينفرون منها، ويرفضون شراءها، وادعاؤها أنها متزوجة، فالمتزوجات بيعهن أبطأ من غير المتزوجات، وتظاهرها بأنها حامل، حتى تتجنب الاغتصاب، ولو مؤقتًا.

دنيا ميخائيل، نقلت بامتياز رسالة عبد الله، وصرخات الضحايا، إلى العالم، ولسان حالها يردد مع عبد الله منقذ السبايا: "لو عدنا إلى القرية، هل سيكون لنا مزاج لنزرع؟ ماذا سنزرع في الأرض التي ملأتها العظام والجماجم؟ ما الذي سيورق؟ كم من الدم سيسري في عروق الأشجار؟


(*) دنيا ميخائيل، شاعرة وكاتبة عراقية تقيم في الولايات المتحدة، تخرجت في جامعة بغداد، وأكملت دراستها في جامعة وين ستيت. تعمل أستاذة للغة العربية وآدابها في جامعة أوكلاند بولاية مشيغان الأميركية. حصلت على عدد من الجوائز، منها: كريسكي للآداب والفنون 2013، الكتاب العربي الأميركي 2011، جائزة القلم "بين" 2006. من كتبها الشعرية: "الحرب تعمل بجد"، "أحبك من هنا إلى بغداد"، "مزامير الغياب"، "يوميات موجة خارج البحر".
 (**) صدر كتاب "في سوق السبايا"، في 225 صفحة من القطع الكبير، عن "منشورات المتوسط"، بميلانو، إيطاليا، في العام 2017.